كما كان متوقعاً، تمسّكت تركيا بطوق النجاة الروسي في اللحظة الاخيرة، وعمدت الى الاستفادة من تقديماته للعودة الى الساحة السياسية والدبلوماسية من الباب الرئيسي بعد ان كانت لفترة تعمل من الباب الخلفي.

اعتذرت تركيا، وهذا القول صادر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً، بسبب حادثة اطلاق اسقاط الطائرة الروسية ومقتل طيارها، وستعود العلاقات الى طبيعتها بشكل تدريجي وفق ما قاله الطرفان، وهذا يعني ان تركيا عادت الى الساحة وباتت جاهزة لاستعادة دورها.

ليس بريئاً التوقيت الذي قررت فيه تركيا اعادة المياه الى مجاريها مع ​روسيا​، فهي امّنت اعادة وصل ما انقطع مع اسرائيل، ثم اكملت المهمة بالمصالحة مع روسيا. فما هي الدوافع التي حرّكت المبادرة التركية؟

لا يمكن حتماً حصر الدوافع وتعدادها، ولكن يمكن التوقف عند ابرزها. وجدت تركيا نفسها محاصرة من اوروبا التي لم تتقبلها بعد وتضغط عليها بموضوع اللاجئين دون ان تعطيها ولو تلميحاً حول نيّتها ضمّها الى الاتحاد، كما انها وجدت نفسها ايضاً معزولة عن المفاوضات حول التسوية المفترضة في المنطقة، ناهيك عن مسألة دفعها ثمن السير في مسألة القضاء على "داعش" والمنظمات الارهابيّة.

في الموضوع الاوروبي، وجدت انقرة ان صورتها لم تتحسن لدى اوروبا، وان مسألة "الابتزاز" في موضوع اللاجئين السوريين ارتدّت سلباً عليها وزادت من نقمة الاوروبيين الذين ردّوا باعتراف دول من الاتحاد بالابادة الارمنية والتركيز على التعاطي السيّء للاتراك مع اللاجئين واثارة مسألة حقوق الانسان والحريّات.

وفي ما خصّ الحلّ في المنطقة، لاقت تركيا مدى التقدّم الذي يحقّقه الاكراد مع الولايات المتحدة وروسيا وثقة الدول الغربية والعظمى بالاكراد في الحرب على "داعش"، ما يعني ان مسألة الاعتراف بدولة كرديّة باتت على طاولة المفاوضات وتحتاج الى التدقيق بالتفاصيل فقط. ولا تحتمل انقرة ان تبقى بعيدة عن هذه الاجواء، لذلك عدلت اخيراً من شروط المواجهة الجويّة وسمحت لطائرات التحالف في استعمال اجوائها لتنفيذ ضربات على "داعش" وهو تطور ليس بالسهل بعد ان كان الاتراك يرفضون مجرد البحث في هذا الطلب. ولعل اعادة العلاقات الى طبيعتها مع اسرائيل، يصبّ ايضاً في خانة تعزيز الحضور التركي كبوابة اسرائيل الى اوروبا، واحياء اتفاق الغاز الشهير الذي يعيد الحيوية الاقتصادية والمعنوية الى تركيا، وهو امر يتكامل مع الاتفاق مع روسيا التي تعتبر مصدراً اساسياً للغاز، كما يؤمن لشركاتها حصة مهمة في التنقيب عنه وعن النفط في المنطقة.

اما في موضوع القضاء على "داعش" فقد بدأت تركيا دفع ثمن "غض النظر" وتشجيع بعض من موّلتهم في سبيل اسقاط نظام الرئيس السوري بشار الاسد، واصبحت الاراضي التركية مسرحاً لعمليات انتحارية وارهابية، فسّرها البعض على انها انتقامية للقرار التركي التخلّي عن هذا الدعم.

واذا صح هذا التفسير، فإن انقرة ستكون غير قادرة على احتمال الخناق الروسي المفروض عليها، وبُعد اسرائيل عنها، وعدم الرضا الاوروبي عليها، وهي في الوقت نفسه غير قادرة على المحاربة على اكثر من جبهة في الوقت نفسه، لذلك شكّلت هذه الامور دوافع حقيقية لتركيا للتحرك في اتجاه روسيا واسرائيل وكسب الهواء للتنفس والبقاء على قيد الحياة.

ولكن السؤال يبقى حول قدرة النظام التركي على اعادة الامور الى ما كانت عليه، وكيفية تغيير الصورة التي ظهرت بها في الآونة الاخيرة، ومدى الثمن المستعدة ان تدفعه في سبيل العودة الى وضعها السابق قبل قرارها تضخيم نفسها وفتح جبهات مع الجميع.