إنّها تجربة شخصية. كثيراً ما تشاركت إحساسها مع رفاقٍ لي في النضال، كما يحلو لي أن أسمّيهم. لدرجة أنني صدقت أنّه يمكن لهذه التجربة الذاتيّة أن تعمّم على شريحةٍ من الشباب اللبنانيّ اختبروا صخب العمل الميدانيّ في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة. بعد مرحلة ملؤها الحماسة التي تطبع النشاط اليوميّ المكثف، من العمل الطلابي كلّ في جامعته او مدرسته، تحضيراً للانتخابات الطلابية، نقاشات في الافكار والعناوين السياسية لتلك المرحلة مع رفاقنا في التيارات والأحزاب الأخرى، وصولاً الى الجزء الألذ في نشاطنا آنذاك، "الاكشن". مظاهرات احتجاجية على الأرض، كرّ وفرّ مع الأجهزة الامنية وتجربة الإعتقال والسجن.

تُسجن وتُحاكم عسكرياً على رأيٍ وعملٍ سلمي ليس أكثر. لتخرجَ بعد وقتٍ مدموغاً بنقطةٍ أرادها ديّانك سوداء في سجلك العدلي، فتحوّلَها، ببراءةِ وشاعريةِ عمر الشباب، الى العكس.

كان ذلك في السابق. أما اليوم، إنه الإحساس بالخيبة ذاته ما يجمعنا. كمن اصطدم في سيره، ببابٍ زجاجيٍّ، غير مدرك أنّه من قوة الارتطام، ومع تناثر شظايا الزجاج من حوله، يكون قد تأذّى جسديا هو أيضاً.

يشدّد ميلان كونديرا (الروائي الفرنسي من أصل تشيكي) على أن روايته الاولى "المزحة" (1967) هي أولاً وأخيراً قصةَ حبّ. ليقفَ في وجه قراءاتٍ عديدةٍ تفرطُ في اعتبار هذه الرواية وثيقةً سوسيولوجية أو حتى مانيفستو سياسي، شكّلت في ذلك الوقت، ورقة إقناع تضافُ الى سجلّ محاكمة الستالينية البيروقراطية وكلّ أشكال الإستبداد والتوتاليتارية. لا مجال للتشكيك بحقّ كونديرا الإنتصار لهمّه الأساسيّ في عملٍ ابداعيٍّ قام به، والذي هو، بالدرجة الاولى، الهمّ الروائيّ المتصل حصراً بمجال الفن والابداع. أما إذا قُرئت روايتُه كوثيقةٍ تاريخيةٍ أو لغايةٍ سياسيةٍ فيأتي ذلك من باب المصادفة، و"على ضهر البيعة" كما يقال.

"المزحة" رواية ملتزمة، شهادة، وثيقة إتهامية لحقبة سياسية أم ببساطةٍ جميلة قصة حبّ؟

منعاً لأيّ تشويش ذهنيّ، وجدتُ الحلّ. حل مريح، يستند الى تجربة شخصية، تفرط في ذاتيّتها.

أو ليست معظم النضالات، هي قصص حبّ؟ إن بقائد أم بقضيّة، أم بمنظومة أفكار وإيديولوجيات، لا يهمّ. طالما أن رابطاً عاطفياً يشكل جزءاً بنيوياً من كل نضال.

وللإلتباس دورٌ.

فهو جزء من العلاقات الانسانية وليس استثناءً. إلتبس علينا الامر في علاقتنا معه. فوقع سوء في التفاهم. وللبدايةِ كلّ الرمزية. حين نظرنا إليه من خلف شاشة تلفاز، في غرفة استقبال كنّا او في ملجأ، لا فرق، فالمكان والزمان في تلك اللحظة يظلّان دون معنى يذكر. فالأهميّة تكمن في كونها لحظةً معلّقة. لا وجود لقبلها ولا لبعدها. لحظة تلاقٍ بين مراهقين بأمسّ الحاجة لطرف ثالث، غير الأم والأب، ليعلّقوا عليه جبلاً من توقعاتٍ لا تحصى، وبين صورة قائدٍ أتى ليملأ فراغاً ويصير رمزاً.

ووقع الالتباس وتوهمّنا. توهمّنا اننا نراه كما يرانا. لكن للواقع رأيا مغايرا. فحين كنا نراه شخصاً أوحد كان هو ينظر إلينا ككتلةٍ. كتلة مناصرين لا كتلة محبّين. والفرق بينهما كبير.

حتى لمّا تعرّفنا عليه شخصياً دونما ستارٍ يفصل بيننا، توهمّنا مرةً اخرى. فبقيت اللحظة معلّقة. ولم يتغيّر شيءٌ. فلا إلتقاء العيون ولا إنتفاء حاجز بيننا بدّل في الواقع امراً. ودُمنا بنظرهِ كتلة، لا معالم واضحةٍ لها، يعتزّ بها صحيح ويصرفها حين تدعو الحاجة.

لا مجال لملامة اي طرف هنا. فسوء الفهم دائما ما يحصل. وليست الا جملة الانكسارات والخيبات والانشقاقات التي تحفل بها كثير من احزاب لبنان والخارج الا دليل على ذلك.

صحيح اننا تأخّرنا بالخروج من دائرة التوهّم. عشنا في حالة نكران مطوّلة، غير قادرين على التصديق او بالأحرى غير راغبين بالتصديق بأنّ كلّ رمزٍ لا يعدو كونه شيئاً. شيءٌ ذو بعد واحد. من غير جدوى، الإسقاط عليه أبعاداً إضافية.

وأمّا للنهايةِ فرمزيتها ايضاً.

لم نقتل القائد الأب، بهدف التحرّر من سلطته والاستيلاء على مكتسباته كما أورد سيغموند فرويد في كتابه (توتيم وتابو) بل ما حصل معنا كان اكثر ايلاماً. فقد اختار القائد، بطريقة مُمنهجة، الانتحار على مرأى منّا. آخذاً معه مبادئ وقيماً كانت في السابق نواة كلّ حركتنا الاعتراضية، ليتركنا لحالة من الخراب، لإحساسٍ بدمارٍ داخلي دونما مرتكزٍ يكون بمثابةِ إشارة إستدلال لما بعده.

اما الآن... كعلامة استفهام متنقلة، نحن نستعيرُ من كونديرا عنوانه، لنسأل، هل كل الذي آمنّا به في شبابنا، لم يعدُ كونه "مزحة"؟ ليس سوى منظومة شعارات أثبتَت عدم صلاحيّتها عند التطبيق؟

ليبقى لنا، في النهاية، ذلك الألم، يحفرُ عميقاً في النفس. ليذكرنا، بفقدان عزيزٍ، شكّل لنا الى وقتٍ ليس ببعيدٍ، مثالاً أعلى.

* عالمة نفس