على الرغم من تحول بوصلة الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في سوريا والعراق، نحو محاربة الجماعات المتطرفة، مع بروز نجم تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي نجح في تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية في البلدان الغربية، إلا أن المعركة الحقيقية تبقى في مكان آخر، حول هوية القوى التي سترث الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم منذ فترة طويلة، نظراً إلى أن هذا الأمر سيكون عاملاً أساسياً في رسم مستقبل المنطقة السياسي، بالإضافة إلى الصورة التي ستكون عليها أنظمتها.

في هذا السياق، يبرز الخلاف السياسي حول ​معركة الموصل​، بين إقليم كردستان والحكومة العراقية في بغداد، بالإضافة إلى الإشتباكات التي إندلعت في محافظة الحسكة، بين قوات "سوريا الديمقراطية" والجيش السوري، التي إتخذت طابعاً خطيراً، يتمثل بالصراع بين الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وتدعيم ركائز الدولة الفيدرالية التي أعلن عنها ​الأكراد​ قبل أشهر قليلة، فما الذي يحصل فعلياً على أرض الواقع؟

جميع الأفرقاء المعنيين بهذه الصراعات، يتفقون على ضرورة محاربة "داعش"، لكن الخلافات هي حول من يرث هذا التنظيم، نظراً إلى التداعيات التي سترتب بعد إنتهاء المعارك، إلا أنهم على ما يبدو قرروا، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، التحضير مسبقاً للمرحلة المقبلة، كي لا تعود الأمور إلى الوراء مرة جديدة، ما يعزز فرضية الصراعات الجانبية على التقدم على جبهات القتال مع التنظيم الإرهابي.

من هذا المنطلق، يمكن فهم حقيقة الخلافات حول معركة الموصل بين القوى العراقية، حيث تريد الحكومة المركزية أن تكون جميع القوات العسكرية التي تشارك في العملية تحت أمرتها، في حين كانت رئاسة إقليم كردستان ترفض هذا الأمر، قبل أن تعود إلى التأكيد بأن الحرب على "داعش" هي الأولوية بالنسبة لها، من دون أن تنسى الدعوة إلى إتفاق سياسي حول كيفية إدارة المدينة بعد تحريرها، فهذه الأزمة ولدت على ضوء الإتهامات التي وجهت إلى قوات البيشمركة بأنها تنوي البقاء في المناطق التي حررتها في نينوى، في وقت كان إصرار بعض القوى الأخرى على استثناء قوات الحشد الشعبي من عمليات استعادة الموصل.

في هذا المجال، يبرز الدور الأميركي الداعي إلى تشكيل جبهة موحدة لمحاربة الإرهاب، والساعي إلى تأجيل هذه الخلافات إلى ما بعد المعركة العسكرية، التي يريد الإنتهاء منها بأسرع وقت ممكن، بسبب الحاجة لها في السباق إلى البيت الأبيض، بين المرشحة الديمقراطية المدعومة من البيت الأبيض هيلاري كلينتون والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وبالتالي هي تسعى إلى إحتواء جميع الأفرقاء على أمل عدم خسارة أي ورقة رابحة في الوقت الراهن.

هذا الدور حاضر أيضاً في الساحة السورية، حيث تسعى واشنطن إلى إحتواء الخلاف مع تركيا، حول دور "​قوات سوريا الديمقراطية​"، ذات الأغلبية الكردية، فهي لا تريد اليوم الدخول في مفاضلة بين الحفاظ على تحالفها مع أنقرة أو التمسك بالورقة الكردية، أي الورقة الوحيدة التي تملكها على أرض الواقع، لكنها عملياً تواجه معادلة صعبة جداً، خصوصاً بعد إندلاع المواجهات في الحسكة.

على صعيد الساحة السورية، يجب مراقبة الأوضاع في مدينة جرابلس أيضاً، حيث تستعد قوات سورية معارضة، مدعومة من تركيا، إلى القيام بحملة عسكرية ضد عناصر "داعش"، في سباق مع الوقت كي لا يصل الأكراد قبلهم، حيث الهدف الأساسي لهذه العملية ليس محاربة التنظيم الإرهابي بل منع "سوريا الديمقراطية" من ربط الكونتنات الفيدرالية مع بعضها البعض، بعد نجاحهم في تحرير مدينة منبج وسعيهم إلى التوجه نحو مدينة الباب، مع العلم أن مجموعات قريبة من هذه القوات أعلنت، يوم أمس، عن تشكيل مجلس عسكري، مشيرة إلى أنها "ستحمي أبناء منطقة جرابلس وفق القوانين الدولية ولن تقبل بتدخل أحد".

بالتزامن، جاءت الإشتباكات في ​مدينة الحسكة​، في ذروة الصراع حول وراثة "داعش"، على الرغم من أن أفرقاءها متفقون على أهمية محاربة التنظيم الإرهابي، حيث أن الأكراد يريدون من هذه الحرب أن تكون منطلقاً نحو تأسيس دولتهم الخاصة، في حين تُصر الحكومة السورية على رفض أي مشروع تقسيمي، وفي هذا الأمر تتفق مع أنقرة التي ترى في ذلك خطراً على أمنها القومي، وكذلك مع طهران التي تستشعر خطر محاولات ضربها بالورقة الكردية أيضاً.

ما تقدم يفتح الباب أمام جولة واسعة من التساؤلات، أبرزها حول الحرب الحقيقية التي تجري في الشرق الأوسط، هل هي لمحاربة الإرهاب أم صراع مصالح بين مختلف القوى الإقليمية والدولية؟ هل المطلوب اليوم القضاء على "داعش" بأسرع وقت ممكن أم أن ترتيب المشهد السياسي هو الأولوية القصوى؟ ما هي تداعيات الدخول في الصراعات الجانبية بين الأفرقاء المحليين في المستقبل؟ أي مشروع سياسي سينتصر في نهاية المطاف بعد أن يضمن نجاحه في الميدان العسكري؟

في المحصلة، المعركة اليوم تتضح معالمها أكثر من أي وقت مضى، فهي لم تعد مجرد حرب على الإرهاب، تشكلت الأحلاف الدولية لخوضها، بحسب ما كان يعلن، بل هي صراع مشاريع ومصالح لم تحسم نتيجته بعد.