لم يخطر يوماً في خيال رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ولا في تصوّره أنه سيلقي خطاباً كخطاب تأييد ترشيح رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، وأن يقف نحو عشر دقائق ينتظر وصوله إلى بيت الوسط، وإن حاول التقاط الـ "Selfie" مع الإعلاميين والصحافيين لحين توقفت سيارة الجنرال وترجله منها والوزير جبران باسيل.

يختصر خطاب العشرين من تشرين الأول بعنوان وحيد: الحريري يلتحق بحزب الله ويتبنّى مرشحه للرئاسة. بدأ الحريري حياته السياسية منذ العام 2005 في مواجهة مشروع المقاومة. حمّلها كلّ مآسي الكرة الأرضية، وإذ في لحظة يجد نفسه وراءها في دعم مرشحها الرئاسي الاستراتيجي.

كان البيان "الأزرق" متماسكاً ومتسلسلاً. سجّل الحريري تقدّماً بارزاً في أدائه اللغوي. استدارة نوعية. من 43 خطأ في البيان الحكومي، إلى أربعة أخطاء في بيان دعم الجنرال.

دخل الحريري وسط التصفيق قاعة المؤتمر محاطاً بعمّته النائب بهية الحريري ونجليها نادر وأحمد. نادر العقل المدبّر كما يوصف في أروقة بيت الوسط. مهندس كلّ الترتيبات اللوجستية والتقنية والإجراءات الأمنية، والأهمّ السياسية، لا سيما في توطيد العلاقة مع التيار البرتقالي حتى في أوج الانفتاح على تيار المرده.

حضر الوزراء والنواب الزرق بغالبيتهم. غاب منهم النواب غازي يوسف، عقاب صقر، نضال طعمة، أحمد فتفت، معين المرعبي، عمار حوري، محمد قباني. وصل الرئيس فؤاد السنيورة بعد عشر دقائق من بدء المؤتمر )17:10(. لم يكن اسمه ملصقاً على أي كرسي في الصف الأمامي، على عكس زملائه الآخرين الذين حُدّدت كراسيهم بكتابة أسمائهم عليها. بدا السنيورة شاحب الوجه. لم يشارك الحاضرين من نواب ومسؤولين ونقابيين وأصدقاء فرحة إطلالة رئيس تيارهم والتصفيق له. بقي مكتوف الأيدي. ليونة حضوره الشكلية، سارع إلى تبريرها. أكد لـ "البناء" أنّ إيجابية المشاركة في المؤتمر لن تنعكس مرونة في جلسة الانتخاب. حسم موقفه الرافض لوصول عون نافياً أي تأويل لحضوره، علماً أنه كان يستطيع الانتظار أياماً قليلة. لم يكن موقف نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري، الذي حضر متأخراً مختلفاً أيضاً. أعلن الأخير التصويت بورقة بيضاء من دون أن يتكهّن عن مصير جلسة 31 الحالي. أما غياب النواب، المرعبي، قباني، فتفت، حوري، فلم يمر مرور الكرام عند زملائهم. سخر أحدهم من غياب الطبيب البيروتي بالقول "كم صوت بجيب إذا ما نزل على لائحة الحريري".

كانت القاعة مكتظة بالوجوه الحريرية والزرقاوية. عبّر هؤلاء عن حميمية عودة رئيسهم الى البلد والساحة السياسية. أظهر رئيس المستقبل نفسه في موقع المقتدر على تحريك اللعبة السياسية، بغض النظر عن تغييره اللحية السعودية (السكسوكة) باللحية الضائعة بين اللحية الأردوغانية الأخوانية ولحية قادة حزب الله غير المعممين أو المنتمية لزمن المرشح الذي تخلى عنه الحريري النائب سليمان فرنجية و يمكن أن تحل مكانها حلاقة الذقن في العهد العوني المقبل.

استعرض الشيخ سعد في خطابه الطويل المحطات الأساسية كلها من 2005 الى 2008، فالفراغ الرئاسي في 2014، ثم تبنيه ترشيح حليفه القواتي سمير جعجع، طرحه أسماء وسطية قبل تبني ترشيح فرنجية، وكما أسماه (الصديق). وضع هذه المراحل كمرتكزات لتبرير قراره اليوم. سوّغ هذا الموقف بمصلحة لبنان وربطه تاريخياً وبمحاكاته تصرّف والده في لحظة مفصلية شبيهة بحقبات ماضية. التبرير والترويج كانا سيدَي الموقف.

استحضر الوريث السياسي للرئيس رفيق الحريري، الشهيد ودم الشهيد. التجارة في الدم للتعويم لا تزال مطلوبة في سياسات المستقبل كل مرة يترنّح فيها المركب ويشارف الغرق.

ما كان رئيس المستقبل ليكون على ما هو عليه أمس، لولا ثبات حزب الله وعدم تزحزحه قيد أنملة عن دعم العماد عون للرئاسة.

"العقل الحريري" أمس، كان متوازناً. قسوة في الشكل على المقاومة، لكن المضمون معاكس تماماً. صحيح أن رئيس المستقبل حاول تقديم الخطاب في سياق وطني. لكنه لطش حزب الله مراراً وتكراراً. الغريب أن لا يهاجم أو يتعرّض للمقاومة. يُحدث الكلام ضدّ حارة حريك توازناً في المشهد. يحفظ ماء وجهه. يُظهره بمظهر الثابت على قناعاته وأن الخطوة تجاه الرابية لن تغيّر قواعد ربط النزاع بينه وبين حزب الله. ستبقى عناوين الخلاف نفسها. حاول التنظير لامتصاص مسبق لردود الفعل الشعبية والتخفيف استباقياً من تداعياتها عند قواعده قدر الإمكان.

لقد تحدث الحريري عن اتفاقه مع الجنرال حول الدولة والنظام. شمل التفاهم الحفاظ على النظام وعدم تغييره إلا بموافقة القوى اللبنانية كلها.

نجح الحريري إلى حدّ كبير أمس، في رمي الكرة في ملعب الفريق الآخر.. شكلت الدينامية التي تولّدت عن اللحظات الاولى أساساً ومرتكزاً، خاصة أنّ عماد الرابية وخلال ساعة من الموقف الحريري قدّم من منبر بيت الوسط مطالعة وطنية فسّر بها الأهداف المشتركة وخاطب الآخرين بأنّ المساحة تتّسع للجميع بعيداً عن الاتفاقات الثنائية وغيرها.