أن تصل الى مرحلة يُصبح فيها "قائد محور" سابق في باب التبانة في طرابلس يمتدح رئيس المجلس النيابي نبيه بري علناً، وأن تُرفع لافتات في الطريق الجديدة في بيروت مؤيّدة لبري بصفته ضامناً للوحدة الوطنية، وأن يستبدل محسوبون على تيار "المستقبل" صوراً لرئيس تيّار "المستقبل" ​سعد الحريري​ بصور لرئيس المجلس النيابي، وأن تسمع في مقاهي بيروت إسم بري في دردشات البيارتة أكثر من إسم أي زعيم آخر، وأن يشجّع صيدايون الخيار الانتخابي لرئيس حركة أمل، يعني كل ذلك اولاً: الارتياح الى مسار بري وطروحاته الآن، وثانياً: عدم الرضى الصيداوي- الطرابلسي-البيروتي على تبنّي الحريري لترشيح رئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.

اللافت أن كل هؤلاء في الساحة الاسلامية السنيّة يؤيدون وصول رئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجيّة الى قصر بعبدا.

ليس في الأمر أيّ مبالغة. من يشكّك فليطّلع على تلك الأجواء بنفسه. يمكن رصدها في الشوارع واستطلاع عشوائي لآراء الناس، والحديث في سيارات الأجرة والمحال والمقاهي. لقد فرضت تلك الخيارات الرئاسية بري وفرنجيّة بطلين سياسيين عند أبناء الطائفة السنيّة، مقابل تراجع شعبية الحريري الى مستوى لم يصل اليه من قبل. هذا ما يُفسر تعدّد أصوات الرفض في كتلة المستقبل النيابية.

تلك الوقائع تؤكد من ناحية ثانية ان أبناء الطائفة السنية وطنيّون من الطراز الأول، لأنهم لم ينحازوا الى زعيم من طائفتهم بقدر انحيازهم لخيار سياسي تبناه زعيم شيعي وآخر ماروني لهما باع طويل في ترسيخ العيش المشترك وتقريب المسافات بين الطوائف، الى حدّ حديث بري مرات عدة عن انه "شيعي الهوية سني الهوى".

ليس في الأمر انتقاصاً من دور وموقع عون الوطني. تجري المقاربة الشعبية هنا بحسب الخيارات الديمقراطية والتجربة المتبادلة تاريخياً حتى الأمس القريب في التعامل بين قواهم السياسية ورئيس تكتل "التغيير والإصلاح".

تراجعت شعبية الحريري شخصياً، رغم أنّ قوة تياره هو مطلب للمعتدلين. المسألة تتعلق بإبتعاد رئيس "المستقبل" عن القاعدة الشعبيّة، ثم اتخاذه القرار الصادم لجمهوره بتبني ترشيح "الجنرال". لا يفقه كل جمهور التيار الأزرق مقاصد "الشيخ سعد". لم يعترف هذا الجمهور بخسارة الحريري سياسياً وصولا الى اضطراره سلوك هذا الطريق.

لغاية ثلاثة أشهر مضوا كان النزاع السياسي على أشده بين التيارين البرتقالي والازرق، منذ "وان واي تيكيت" التي أطلقها عون حتى المواجهة النيابية الكلاميّة في لجنة الطاقة والمياه بين نواب الفريقين واتهام بعضهما بالسرقة في موضوع الكهرباء. إذا كان جمهور التيار "الوطني الحر" غفر للتيار الأزرق كل الاتهامات، ونسي "الإبراء المستحيل" بسبب تأييد الحريري لعون، فإن جمهور التيار الأزرق لم ينس بعد لعدم وجود "جوائز فورية" وتعويضات يلمسها في السياسة كالتي يوشك على حصدها العونيون. ربما المسألة أبعد. وجدوا الحريري ضعيفاً بسبب "تدرّجه من مرشح الى مرشح فرضه حزب الله"، فلجأ هذا الجمهور للإشادة "ببطلي المواجهة السياسية" أي بري و فرنجية.

يُدرك الحريري الآن هذا الواقع. ربما تصله تقارير تفيد مثلاً ان مؤيدي وزير العدل المستقيل اللواء أاشرف ريفي باتوا يتمددون في الطريق الجديدة، ويواجهون أنصار الحريري كما حصل منذ يومين وأدى لوقوع إشكال جرى تطويقه. لو جرت الانتخابات النيابية الآن لإكتشف الحريري حجم تراجعه الشعبي. تدنّى الأمر بكثير عما كان عليه في مرحلة الانتخابات البلديّة التي حصلت منذ أشهر. قد يقود هذا الامر الحريري لطلب تأجيل الانتخابات النيابية، لحين تكريس سلطته كرئيس للحكومة في العهد العتيد. وهو أمر مستبعد لأن الحريري سيُكلّف للتأليف، لكنه لن يستطيع تشكيل الحكومة بسبب عُقد بالجملة سيواجهها، وتتطلب تفاهمات سياسيّة شاملة مفقودة حتى الساعة، ولن تحصل بعد انتخاب رئيس الجمهورية. وهي مسألة يدركها جيداً المطّلعون على مسار التطورات الرئاسية، وربما صار يعرفها الحريري نفسه.