بعد إنتخاب مطران جبيل بشارة الراعي بطريركاً للموارنة في لبنان وسائر المشرق، ودخوله في تفاصيل السياسة اللبنانية من الباب العريض، عبر إطلاق مواقف واضحة من الأحداث السورية ومن "حزب الله" ومن الكثير من الملفّات الداخليّة، بدا للوهلة الأولى أنّ البطريرك الراعي يميل إلى خيارات العماد ميشال عون السياسيّة أكثر من سواه. لكن تراكمات الأشهر القليلة الماضية أعطت إنطباعاً مُعاكساً، حيث بدا أنّ الهوّة في الموقف السياسي بين البطريرك و"الجنرال" تزداد إتساعاً، لمجموعة من الأسباب أبرزها:

أولاً: التباين في الرأي بالنسبة إلى مسألة شغور موقع الرئاسة، حيث كان البطريرك يرى أنّ التمديد للرئيس السابق ميشال سليمان إلى حين التمكّن من إنتخاب رئيس جديد هو أفضل من الفراغ، بينما عارض الجنرال هذا الخيار كلياً، لاعتبارات تبدأ بالموقف المبدئي والدستوري من مسألة التمديد بالمطلق، وتمرّ بالعلاقة السيئة بين العمادين عون وسليمان، ولا تنتهي عند رفض المحور الذي يتحالف الجنرال عون معه، أيّ تمديد لسليمان لاعتبارات سياسيّة محض.

ثانياً: التباين في الرأي من مسألة مقاطعة جلسات إنتخاب الرئيس، حيث يرفض البطريرك الحجج المرفوعة من قبل "التيار الوطني الحرّ" لجهة عدم التوافق مُسبقاً على رئيس، وعدم جدّية ترشيح كل من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع والنائب هنري حلو، ويطالب بحضور النوّاب إلى المجلس، والتنافس ديمقراطياً تحت قبّة البرلمان، الأمر الذي يرفضه الجنرال الذي يُصرّ على المقاطعة مع كتلة نواب "حزب الله" وكتلة النائب سليمان فرنجية.

ثالثاً: التباين في الرأي بالنسبة إلى مسألة تقديم الإنتخابات النيابيّة على الرئاسيّة، حيث يعتبر البطريرك أنّ المسار الطبيعي للأمور يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية على أن يلي ذلك تنظيم الإنتخابات النيابيّة من دون أي تأجيل. في المقابل، يعتبر الجنرال أنه في ظلّ التعثّر الحالي في إنتخاب رئيس للبلاد يجب تنظيم إنتخابات نيابية لإعادة تحديد الأحجام السياسية، إن على المستوى الشخصي أو على مستوى الكتل النيابية.

رابعاً: التباين في الرأي بالنسبة إلى مسألة إدخال تعديلات دستورية على قوانين الإنتخابات والسلطات الممنوحة لكل طرف، حيث يعتبر البطريرك أن لا مانع في تغيير القوانين إذا كانت تصبّ في صالح الحقوق المسيحيّة على صعيدي الإنتخابات الرئاسيّة والنيابيّة، لكنّه لا يُجاري الجنرال في توقيت طرح هذه التعديلات. كما أنّ البطريرك يطالب بأن تتمّ أي تعديلات بالتوافق مع باقي الفرقاء السياسيّين وأن لا تتسبّب بأيّ تصادم مع جهات فاعلة منهم، مع تشكيكه بصوابية فتح باب إدخال تعديلات جوهريّة على إتفاق الطائف في هذا التوقيت الدقيق والضاغط محلّياً وإقليمياً.

في الخلاصة، الأكيد أنّ البطريرك الراعي لا يبني مواقفه وتصاريحه لإرضاء هذه الشخصيّة السياسية أو تلك من بين الشخصيات السياسية اللبنانية والمسيحيّة، وإن كان يحرص على الحفاظ على علاقات إحترام ومودّة مع الجميع. وهو يُحدّد مواقفه إنطلاقاً من قناعاته الشخصيّة، مع التركيز على نظرته المبدئيّة لكثير من الأمور والملفّات، الأمر الذي يُفسّر تبدّل مواقف الأطراف السياسية منه، بحسب مدى إقتراب أو بُعد مواقف البطريرك من هذا الخط السياسي أو ذاك، تبعاً للظروف المتغيّرة والملفّات المطروحة. والواضح أنّ مواقفه الأخيرة تسبّبت بزيادة الهوّة مع العماد عون، على الرغم من محاولات عدد من البطاركة القريبين من خط "التيّار" السياسي الإيحاء عكس ذلك، وعلى الرغم من حرص البطريرك الشخصي على الإبقاء على خطوط التواصل مفتوحة، يبدو أنّ العلاقة بين البطريرك والجنرال ستكون مرشّحة للتدهور أكثر في حال سار رأس الكنيسة المارونية بالتحضيرات القائمة وراء الكواليس حالياً، والتي يُتوقّع أن تتكثّف خلال الأسابيع القليلة المقبلة، لتمرير مرشّح "توافقي" للجمهورية من خارج الإصطفافات الحادة بين فريقي 8 و14 آذار.