في الوقت الذي ترفض ​إيران​ التخلّي عن الرئيس السوري بشّار الأسد، وتخوض حرباً دبلوماسية وسياسية وأمنيّة شرسة دفاعاً عن نظامه، وفي الوقت الذي أوعزت فيه خلال العامين الماضيين إلى مجموعات قتالية لبنانية وعراقية وإيرانيّة التوجّه إلى سوريا دفاعاً عن حكم الأسد، إستغرب الكثير من المُراقبين "تضحية" إيران بمن كان يوصف بابنها المدلّل في العراق، ​نوري المالكي(1)، وغضّها الطرف عن الهجمات الجويّة الأميركية على العراق. فما هي الأسباب والخلفيّات؟

أوّلاً: ترغب إيران بوقف التدهور الأمني السريع في العراق بأيّ شكل من الأشكال، حتى ولو إضطرّها الأمر إلى تلبية بعض الشروط الإقليميّة والدولية على مستوى تغيير طبيعة السلطة الحاكمة ومنها التخلّي عن المالكي، علماً أنّ تنازلات طهران بلغت حد الرضوخ إلى واقع تنفيذ الجيش الأميركي ضربات جويّة، وقيام قوّات "البشمركة" الكرديّة بهجمات ميدانية في مناطق كانت تحت سيطرة الجيش العراقي، وذلك بعد توسّع مساحة سيطرة مسلّحي "الدولة الإسلامية" بشكل كبير وخطير، ووصولهم إلى مناطق لا تبعد عن الحدود الإيرانية-العراقية سوى 25 كلم. فقط، مع ما يُشكّله هذا الأمر من خطر مستقبلي يتمثّل بتعرّض بلدات حدوديّة إيرانية لهجمات، وربما إلى دخول إيران في حرب إستنزاف طويلة لا تريدها على الإطلاق.

ثانياً: على الرغم من تفضيلها المالكي على غيره من القيادات، فإنّ التمسّك به رئيساً للوزراء تسبّب بإنقسامات داخل قوى سياسية عراقية موالية أو مقرّبة من إيران، وأسفر عن بروز خلافات بين "الإئتلاف الوطني" و"إئتلاف دولة القانون"، الأمر الذي ترك تصدّعات كبيرة في الكيان العراقي الهشّ أصلاً منذ إسقاط حكم الرئيس صدام حسين، وعرّض السلطة القائمة إلى خطر الإنهيار التام والتشتّت الكامل، في ظلّ تعثّر الجيش العراقي في مواجهة العمليّات العسكريّة لمسلّحي "الدولة الإسلامية". وبالتالي، كان القرار بالتضحية بالمالكي إنقاذاً لكيان الدولة العراقية، وحفاظاً على ما تبقّى من مؤسّسات دستورية، وتجنّباً لتحويل التقسيم الميداني للعراق إلى واقع دستوري وقانوني. كما كان قرار غضّ الطرف عمّا إعترضت عليه طهران طويلاً بالنسبة إلى التدخّل العسكري الأميركي المباشر.

ثالثاً: إنّ رئيس الوزراء العراقي المكلّف، حيدر العبادي(2)، يتمتّع بعلاقة جيّدة مع كثير من القيادات الإيرانية، ووصوله إلى السلطة لا يعني كفّ يد طهران كلياً عن الحكم في بغداد، حيث أنّ تكليفه جاء بعد التنسيق مع القيادة الإيرانية. وتمتّع العبادي بشبكة علاقات دوليّة حسنة، حتى مع الولايات المتحدة الأميركية، لا يُزعج إيران التي تأمل توظيف هذا الأمر بشكل إيجابي في إطار التسويات التي تعمل على تطبيقها مع الدول الغربيّة في إطار مفاوضات "الملفّ النووي" والتي بلغت مرحلة متقدّمة.

رابعاً: ترغب إيران بالقيام بما يُشبه عمليّة إعادة تموضع سياسي في العراق، في محاولة للحدّ من الخسائر العسكرية والسياسية التي مُنيت بها. وهي بالتالي، تلين قليلاً مع الرياح التي تهبّ على العراق في المرحلة الحالية، على أمل أن تعود وتستعيد ما خسرته في مرحلة لاحقة، خاصة وأنّها لا تزال محط ثقة مجموعات شيعية عدّة.

في الختام، قد يكون مفهوماً قيام إيران بالتضحية بالمالكي، بحكم الضرورة والرضوخ للأمر الواقع، وفي إطار سياسة ليّنة في الظاهر لكن غير مختلفة في المضمون، لكن ما هو غير المفهوم حتى الساعة يتمثّل في عدم إرسالها أيّ قوّات عسكريّة كبيرة ومُهمّة، لا نظامية ولا ميليشياويّة، إلى داخل العراق للدفاع عن نظامه، وكذلك للدفاع عن المقدّسات الشيعيّة التي إستبيحت على يد مسلّحي تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي، حيث أنّ ما يتردّد عن تخوّف من ردّ الفعل العربي والإسلامي على هكذا خطوة غير مُقنع!

(1)شغل نوري المالكي منصب رئيس وزراء العراق منذ أيّار 2006 حتى الأمس القريب، وهو بقي متشبّثاً بموقعه حتى النهاية على الرغم من كل المآسي والإنهيارات في العراق، بحّجة تمتّعه بدعم أكبر كتلة نيابية، قبل أن يتراجع عن موقفه بعد سحب الغطاء الإيراني عنه.

(2)كلّف الرئيس العراقي فؤاد معصوم في مطلع آب الحالي، حيدر العبادي، تشكيل حكومة جديدة برئاسته، علماً أنّ العبادي درس وتخصّص وعاش لفترة طويلة في بريطانيا.