في الوقت الذي إنتهى عمليّاً الوجود المسيحي في العراق، وتهجّر عدد كبير من مسيحيّي سوريا، وتراجع الحضور المسيحي في مصر وغيرها من دول المنطقة، أطلّ أخيراً الخطر على لبنان ككل، وعلى مسيحيّيه بطبيعة الحال. فهل فعلاً الوجود المسيحي في لبنان في خطر؟ وهل خيار التسلّح وارد وجِدّي والحماية الذاتية مُجدِيَة؟ وهل أخذ المَسيحيّون الإجراءات المطلوبة تحسّباً لأيّ تطوّرات؟

بالنسبة إلى الخطر فهو مُحدق بلبنان وبأهله جدّياً، وليس من خارج الحدود فقط – كما يظنّ الكثيرون، ولكن من داخله أيضاً. وهذا الخطر مُتعدّد الأوجه، ويبدأ بنيّة واضحة لتنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي بالتوسّع جغرافياً – إذا أتيحت الفرصة له، وذلك بمجرّد تثبيت أسُس حضوره الحالي في العراق وسوريا، كما أكّد أكثر من مسؤول دَولي، وكما تُثبت العديد من الخرائط والوثائق المُسرّبة والخاصة بالتنظيم المذكور، مع ما يعنيه هذا الأمر - في حال تنفيذه، من هلاك لمسيحيّي لبنان على غرار ما حصل في دول المنطقة. ويمرّ هذا الخطر بخُطط النظام السوري المُتحرّكة والتي إستوجبت في مرحلة من المراحل الإطباق على مواقع المعارضة الحدودية لمنع وصول السلاح والمسلّحين من لبنان إلى الداخل السوري، بينما عمَدت في مراحل أخرى إلى دفع مسلّحي المعارضة من العمق السوري في إتجاه الحدود اللبنانية عبر ترك ممرّات آمنة لهم لهذه الغاية، بهدف محاولة نقل النزاع السوري إلى لبنان، بحسب ما تؤكّد أكثر من شخصيّة سياسيّة معارضة لحكم الرئيس بشار الأسد. وليس سرّاً أنّ النظام السوري الذي لطالما حذّر من أنّ ما يجري في سوريا سيُهدّد أمن منطقة الشرق الأوسط كلّها، يُحاول حالياً إبراز خطر إرهابيّي "داعش" على مختلف دول الجوار، أي على كل من تركيا والأردن ولبنان وإسرائيل. والخطر المُحدق باللبنانيّين وبمسيحيّيه بطبيعة الحال لا ينتهي بوجود مئات آلاف اللاجئين السوريّين والفلسطينيّين المؤيّدين لأفكار الجماعات الإسلامية المتشدّدة على إختلافها، إضافة إلى عشرات "الخلايا الأمنيّة النائمة" وعملاء أجهزة إستخبارية إقليمية ودولية، داخل مُخيّمات النازحين وفي بعض المخيّمات الفلسطينيّة المسلّحة وحتى في شقق مستأجرة داخل القرى والبلدات والمدن اللبنانية المختلفة.

وبالنسبة إلى ما يُحكى عن عمليّات تسلّح في المناطق ذات الأغلبيّة المسيحيّة، فإنّه لا يعدو كونه عمليّات محدودة وغير مُنظّمة، حيث قام بعض المسيحيّين، خاصة من سكان قرى وبلدات الأطراف بشراء أسلحة رشّاشة مُستعملة مع كميّة قليلة من الذخائر، فيما قام آخرون بنبش أسلحتهم المُخبأة أو المُوضّبة من دون صيانة منذ سنوات، مع بضعة مَمَاشط تسرّبت الرطوبة إلى ذخائرها. وبالتالي، إنّ ما يُحكى عن عمليّات تسلّح لا يُؤمّن أيّ حماية فعليّة جِدّية في حال تعرّض أي بلدة أو منطقة لعمليّة إجتياح إرهابي مُنظّم، ودور هذه الأسلحة يقتصر على منح شعور زائف بالأمان للبعض، وتوفير وسيلة لإستعراض "رجوليّ" لعدد من المراهقين الذين يخَافون من صوت الرعد. وحتى الساعة لا يُوجد أيّ قرار جِدّي من أيّ جهة حزبيّة مسيحيّة ومن أيّ تيار سياسي مسيحي بالتحضير لنوع من "الحماية الأمنية الذاتية"، أكان بشكل مستقل أو بالتنسيق مع القوى الأمنيّة الرسميّة.

والمُشكلة الكبرى، أنّه وفي ظلّ وجود خطر فعلي على لبنان وعلى المسيحيّين فيه، ولو أنّ هذا الخطر مُستتر بجزء كبير منه حتى إشعار آخر، لا توجد أيّ إستراتيجيّة مسيحيّة لإستباق أيّ كوارث محتملة. فمسيحيّو "14 آذار" يُحاولون التقليل من المخاطر الفعليّة الموجوة، إنطلاقاً من نظريّة غير صحيحة مَفادها أنّ تسليط الضوء على إرهاب "داعش" وأخواتها، يعني تلقائياً تأييد نظام الرئيس السوري، وهم يُزايدون أيضاً في مسألة رفض التسليح الشعبي وضرورة الإنضواء حصرياً تحت شرعيّة الدولة، في إطار سياسة التصويب المُستمرّ على سلاح "حزب الله"، وبحجّة منع إستدراج أيّ سلاح داخلي مقابل السلاح الشرعي. من جهة أخرى، يُزايد مسيحيّو "التيّار الوطني الحرّ"، بشعارات لطالما رفعتها "القوّات اللبنانيّة" في زمن الحرب، يوم كانت تُوصف بالإنعزالية والمُتعصّبة وبأنّها تعمل لتقسيم لبنان ولفرض "كانتون مسيحي"، بدءاً بمهاجمة جهات إسلامية مُحدّدة محليّة وإقليمية، مروراً بنشر دعوات للتسلّح ولو أنها تأتي من ناشطي الصفّ الثاني ومن بعض الإعلاميّين ومن الصفحات الإجتماعية المؤيّدة للتيّار، وصولاً إلى تغطية إرتكابات "صبيانيّة" بعيدة عن وسائل التعبير المسيحيّة الراقية المعهودة... على غرار حرق الأعلام وما شابه، مع ما يستدرجه هذا الأمر الذي لا يُقدّم ولا يُؤخّر في جوهر الصراع القائم، من ردّات فعل مهينة للشعارات المسيحيّة ومن حُجِج للإرهابيّين للإمعان بإرتكاباتهم، ولو أنّ لا خلاف على مبدأ الحرق الذي يجب أن يطال "داعش" من أعلى قيادتها نزولاً إلى آخر عنصر فيها، وصولاً إلى كل مؤيّد لوحشيتها ولإرهابها ولجرائمها ولعقائدها المتخلّفة والمتزمّتة.

إذاً الخطر موجود، وهو يطال كامل لبنان بحكم الصراع في محيطه والتدفّق العشوائي وغير المُنظّم للنازحين إلى أراضيه، ويستهدف المسيحيّين نتيجة تفاقم المواجهة المذهبيّة في المنطقة، وعدم توفّر الإمتداد الشعبي لهم، ما يجعلهم – مثلهم مثل باقي الأقليّات، عرضة لمخاطر أكبر من تلك التي تطال باقي الشرائح التي يُمكن أن تجد مجموعات قريبة تمدّها بالدعم في حالات الخطر الشديد. وبناءً عليه، قد يكون الوقت قد حان للإبتعاد عن المزايدات الرخصية، ولعقد لقاء مصلحة بين القيادات المسيحيّة المُتباعدة سياسياً، بهدف وضع إستراتيجيّة حماية موحّدة للبنان عموماً وللمسيحيّين بالتحديد، بعيداً عن الرهانات على "مظلات خارجية" واهية من جهة، وعلى حماية يؤمّنها مقاتلو "حزب الله" في مقابل التغطية السياسيّة لمشروعه الإقليمي من جهة أخرى. وإذا كان رهان المسيحيّين في لبنان هو على الدولة ومؤسّساتها الشرعيّة والأمنيّة أوّلاً وأخيراً، لا شيء يمنع من وضع "خطة باء" تنطلق تلقائياً في حال إنهيار كل ذلك بلمحة بصر، كما حصل في العراق بالأمس القريب، وتكون مُنسّقة ومُحضّرة مع الدولة وأجهزتها الأمنيّة، وليس خارجها، في نوع من "ألوية الدفاع الشعبي المحلّية" بقيادة ضبّاط من الجيش اللبناني.