قد تكون المنطقة دخلت في حلقة جديدة من سلسلة حلقات العدوان الغربي عليها في سياق الحريق العربي الذي سماه الغرب ربيعا، ونعتقد أن هذه المرحلة فيها بعض التمايز في طبيعتها ونمطها ،

عما سبقها من الحلقات التي عانت المنطقة من مآسيها خلال السنوات الأربع الماضية من عمر هذا الحريق الذي أشعل وفقا لاستراتيجية الحرب بالقوة الناعمة التي خططت إسرائيل لها في مؤتمرات هرتزليا بدءا من العام 2007، وتبناها الحلف الاطلسي في مفهومه الاستراتيجي للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ومع الحلقة الجديدة هذه تطرح أسئلة جوهرية حول أهداف المخطط ومستقبل المنطقة في ضوئها، وخاصة أن فيها دخولاً عسكرياً أميركياً مباشراً للمرة الأولى منذ سحب جيش الاحتلال الأميركي من العراق.‏

في البدء نتوقف عند حجم الاهتمام الأميركي بهذه الحلقة، الى الحد الذي حدا بالرئيس الأميركي شخصيا أن يقوم بإطلاقها في ظل صخب إعلامي وسياسي للتأكيد على مدى أهميتها بالنسبة لأميركا. فقد سربت افكار رئيسية منها في الاعلام قبل اسبوع من اعلانها ثم جمع الناتو في ويلز لزجه في مترتبات ما سمي «استراتيجية مواجهة الإرهاب»، ثم خرج اوباما بخطابه الذي اطلق العملية، وسارع رئيس دبلوماسيته لوضع الأمور موضع التنفيذ في مؤتمر جدة الذي عقد تحت عنوان «محاربة داعش « الإرهابية.(فقط) بعد ان‏

باتت تسيطر على قسم من ارض العراق وسورية وتهدد بعض ارض لبنان.. فلماذا قامت أميركا بكل ذلك رغم ان ما تشكله داعش من تهديد لا يختلف كثيرا عن مخاطر تنتجها تنظيمات إرهابية أخرى تعمل في سورية منذ اربع سنوات؟‏

ان حجم الاهتمام الاميركي بالأمر يتناسب مع حجم الاهداف الاميركية الحقيقية من العملية. وهنا نتوقف عند الندم الاميركي على الخروج العسكري من العراق بالشكل الذي حصل منذ 3 سنوات، ما مكن العراق من التحرك بشكل ثابت ومتبصر نحو محور المقاومة وصياغة علاقات مميزة مع ايران وطبيعية مع سورية، وسعيه للقفز فوق الصيغة الطائفية التشتيتية لإقامة حكم الاكثرية السياسية والقرار الوطني المستقل. ثم نتوقف عند الانجازات العسكرية والسياسية التي حققتها سورية الى الحد الذي أقر فيه اوباما بأن التفكير بإسقاط الأسد هو ضرب من الخيال، وبالتالي رأت أميركا ان خسائرها الاستراتيجية تتلاحق في المنطقة وبات خطر تشكل المحور القوي المتماسك الممتد من ايران الى المتوسط والمستند الى علاقات تنافعية واضحة مع روسيا والصين هو خطر جدي وداهم لا يمكن اغفاله، فقررت العودة الى العراق اولا، ومنع سورية من استكمال سيرها في الخط الميداني الصاعد الذي سيؤدي النجاح النهائي فيه الى انهيار للمجموعات الإرهابية وسقوط المشروع الصهيواميركي بشكل كلي. ومن أجل ذلك عادت الى استعمال احد منتجاتها الإرهابية «داعش» لتطلقها في الميدان ولتهيئ لها بيئة العودة الى العراق ولمنع سورية من استكمال انتصاراتها.‏

لذلك لا يظنن أحد أن أميركا فيما اعلنت من استراتيجية او تحاول حشده من قوى، تفعل ذلك من اجل محاربة الإرهاب الذي انتجته دوائر استخباراتها، ولا يظنن احد ان هذه الاستراتيجية المدعاة بانها «استرتيجية شاملة ضد الإرهاب «، هي فعلا الطريق التي تمكن سالكها من القضاء على الإرهاب او حتى تحجيمه، فهي مواجهة اعلنت حصرا ضد داعش بينما الإرهاب في المنطقة لا يقتصر على تنظيم الدولة الإرهابية (داعش ) تلك وحدها، ويعرف الجميع وفي طليعتهم اوباما ان الإرهاب انتظم تحت تسميات متعددة ونزل الى الميدان في سورية والعراق تحت هذه التسميات التي تفرق شكليا بين فصائله، دون ان تسقط حقيقة تماثل هذه الفصائل في الفكر ومصادر التمويل وأساليب العمل والسيد الراعي والمستفيد من نتائج تلك الأعمال.‏

لقد قسمت أميركا في استراتيجيتها الإرهابيين قسمين: قسم تصفه بانه خطر وادعت انها تلاحقه ملاحقة تبرر عودتها العسكرية الى المنطقة، وقسم وصفته بانه معتدل وقررت الاستمرار في دعمه وتغذيته كما هو دأبها في الاصل من اجل تمكينه من الحلول مكان داعش، وبالتالي تكون استراتيجيتها في العمق بمثابة عمل يرمي الى نقل السيطرة على الارض من يد إرهابية الى يد إرهابية اخرى، في سيناريو يمكنها من العودة الى الميدان العراقي ويحضر البيئة لها للدخول الى الميدان السوري ويمكنها من الحد من نجاحات الجيش العربي السوري في الميدان ويقطع الطريق على تنامي الفضاء الاستراتيجي لمحور المقاومة وروسيا.‏

وبالتالي باتت داعش عمليا الجسر الذي ستعبر عليه أميركا الى المنطقة عسكريا لتحقيق اهدافها فيها، لذا كان بديهيا ان ترفض أميركا التعاون والتنسيق مع مكونات محور المقاومة التي تتمسك بحقوقها واستقلالها، او انضمام احد منها الى ما اسمي زورا «تحالف دولي ضد الإرهاب « لانه في العمق تحالف من اجل دعم الإرهاب لتحقيق مصالح أميركا، وحسنا فعلت سورية وايران بابداء الاستعداد للانخراط في عمل دولي مشترك ضد الإرهاب، لان في ابداء الرغبة هذه احراج لأميركا واسقاط للاقنعة التي تخفي خلفها اهدافها الحقيقية من بناء مثل هذا التحالف خاصة بعد طرح السؤال الاساسي: هل ان خطر داعش اصلا يستلزم كل هذا الصخب وهذا التحالف وهل يمكن خرق سيادة الدول بحجة محاربة الإرهاب الملفقة؟‏

بداية نذكر بان داعش لا تملك القوة العسكرية التي تستدعي كل هذا الجهد الدولي وكل هذا الصخب الذي ملأ الافاق، خاصة وان الـ سي اي اي نفسها حددت قدرات داعش بين 20 و31 الف إرهابي ( العدد الفعلي هو ضعفي الحد الاقصى الذي قالت به ويصل الى 65 الفاً ) وهي منتشرة على 40 الف كلم2 ويعلم الجميع انها بحاجة الى اكثر من 600.000 الف مقاتل للامساك بها، ومن جهة اخرى تعلم أميركا ان القضاء على داعش لا يمكن ان يكون بعمل جوي فقط، فالنيران الجوية تسهل المهمة الا ان العمل الفعلي هو للقوات البرية المتخصصة فالقاعدة العسكرية المؤكدة هي ان «الارض يسيطر عليها من يدوسها «. وتعلم أميركا ان القوات البرية التي تعول عليها في حربها المزعومة ليست جاهزة الان لمثل هذه المهمة، ورغم ذلك فانها ترفض العمل مع الجيش العربي السوري، وتحجم عن امداد الجيش العراقي بشكل جدي بما يلزمه في معاركه ضد الإرهاب ، ما يعني انها ليست بصدد القضاء على داعش اصلا في زمن منظور.(حددته بـ 3 سنوات مبدئيا)‏

ومن جهة اخرى تعلم أميركا بان الحرب في الجيل الرابع اي المواجهة التي تكون العصابات المسلحة احد اطرافها، تتطلب خطة محكمة من حلقات اربع تعمل بشكل متزامن ومتكامل حتى تؤتي نتائجها المضمونة، وهي تباعا العمل النفسي والفكري الذي يتوجه الى اجتثاث الافكار العقائدية التي تمكن العصابات من التحشيد ما يقود تاليا الى تجفيف مصادر الحشد البشري، والثاني العمل المالي والتجهيزي الذي يقود الى تجفيف مصادر الامداد والتجهيز، والثالث العمل العسكري الميداني الذي يهدف الى الاجهاز على الإرهابيين بمحاصرتهم والتضييق المتتابع عليهم وصولا الى اجتثاثهم، وهنا يتطلب الامر نار ثقيلة فعالة، وحركة ارضية رشيقة، واخيرا حلقة القضاء المتشدد الواعي الذي تشكل احكامه رادعا للإرهابيين من جهة وحافزا يغري من هم اقل خطرا من جهة اخرى للتراجع عن مسيرة الشر التي دخلوها.‏

فاذا طبقنا هذه المبادئ على ما سمّي استراتيجية اوباما، نجد ان معظم ما ذكر لم يقاربه احد بشكل عملي لا في الخطة الاصل ولا في اجتماع جدة وجل ما تمت مقاربته كانت مسائل ميدانية جاء الحديث عنها بشكل مشوش اما العناصر الاخرى فلم تتعد مقاربتها كلمات مرتجفة وردت في سياق دبلوماسية الرجفة. ولان الامر كذلك فاننا لا نعول على هذا الاستراتيجية المزعومة لتحقيق اهدافها المعلنة ضد داعش لا بل قد تكون مفاعيلها العكس تماما. وهذا ما يؤكد وجوب الاهتمام بالاهداف الاميركية المخفية.‏

ان أميركا التي ابتدعت الإرهاب أداة رئيسية في العلاقات الدولية واتخذته سبيلها لتنفيذ الكثير من أهدافها، ان أميركا هذه لم تنقلب على نفسها وتغير مواقفها من الإرهاب حتى تعلن الحرب عليه وكذلك الحال بالنسبة للسعودية التي تبدي حماسة غير مسبوقة في هذا النطاق خاصة انها هي من بدأت بتمويل الإرهاب و فيها نشا اصلا الفكر الوهابي الذي اتخذه الإرهاب عصبه الرئيسي، وما دفعهما لهذا العمل الاستعراضي هو ما يبتغيانه من أهداف مستترة وبالتالي اننا نرى في التحالف الدولي الذي جاء ترجمة لتلك الاستراتيجية مجرد صفقة بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية حصلت منها أميركا على 18 مليار دولار التزمت السعودية بدفعها ثمن اسلحة وتجهيزات عسكرية لتطوير بحريتها خلال 3 سنوات، ونالت السعودية وعودا بإعادتها الى سورية وتثبيتها في العراق وامتلاك موقع المقرر في الشأن اللبناني. اي صفقة قبضت فيها أميركا نقدا، والسعودية وعدا حددت مهلة تنفيذه بـ 3 سنوات ولهذا حدد اوباما الحد الادنى لحربه الجديدة بـ 3 سنوات ولهذا اختارت أميركا من مجمل الفصائل الإرهابية الفصيل الذي تستشعر السعودية خطره واستبعدت الإرهابيين الذين ينالون الحظوة والدعم من السعودية كجبهة النصرة والجبهة الاسلامية وسواهما.‏

ولان الامر كذلك كما فهمه من يملك القدرة على الفهم والمتابعة رأينا ان من لم يحصل على شيء من الاثمان المدفوعة او الوعود المقطوعة، يتراجع عن المشاركة الميدانية فتمتنع بريطانيا والمانيا عن مد التحالف بأي طلعة جوية وتحجم تركيا عن توقيع البيان حتى لا تلزم نفسها بالعمل من اجل خدمة السعودية في استعادة فضائها الاستراتيجي على حساب تركيا، ووضعت مصر بعض علامات الاستفهام الذكية التي ستمكنها من التنصل من اي التزام.‏

اما السعودية التي تنتظر ان تحصل على ما تريد في سورية ولبنان، فإنها كما يبدو لم تنتبه الى عبارة اوباما الجوهرية التي قال فيها « ان أميركا لم تعتمد حتى الان استراتيجية العمل في سورية «، ولم تفهم ماذا يعني ان يعتبر «حلف المقاومة « ومعه روسيا والصين (المستبعدون عن التحالف) ان يعتبروا اي عمل عسكري في سورية من غير تنسيق معها هو عدوان يستوجب الرد بكل الوسائل المتاحة، كما انها لم تدرك ماذا يعني ان تجاهر بفتح اراضيها لاقامة معسكرات تدريب الإرهابيين وتصديرهم الى سورية، واي صفة ستكون لها واي رد يمكن ان تستحق.‏

و مع هذا نرى وجوب الحذر من حلقة العدوان الجديدة وعدم اغفال امكانية انزلاق التحالف الاميركي - السعودي الى خطأ تكرار تجربة ليبيا في سورية، واستهداف الجيش العربي السوري بالنار لتمكين من ستدربهم السعودية من السيطرة على الارض، نقول هذا رغم يقيننا ان سورية غير ليبيا ونظام العالم اليوم لا يشبه نظامه قبل 3 سنوات، وأميركا تعلم ماذا ينتظر مصالحها في المنطقة ان وقعت في هذا الخطأ، لذلك ومع التحسب فاننا لا يمكن ان نستبعد الخطا من أناس امتهنوا الحسابات الخاطئة‘ وعندها لن تكون العراق والسورية وحدهما في أتون النار بل وايضا المصالح الاميركية والمملكة السعودية ، التي قد تجد نفسها في لحظة من اللحظات تنتقل من مقعد الفاعل الى مقعد المفعول فيه، وتكون قد اكلت الطعم ووقعت في فخ ادركته تركيا وتجنبت الوقوع فيه بالامتناع عن توقيع بيان جدة. ويطبق المثل «طابخ السم آكله».‏