يسير لبنان على ضفاف بحر متلاطم الأمواج، مختبط بشدّة، تجتاحه العواصف من هذا المحيط المستوي في جوفه، ممزّقَ الحضور، غيرَ قادر على اجتراح حلول تمكنّه من الديمومة المتكاملة الأجزاء والأطراف.

على أرضه تتراكم المفردات والعناوين، بأطر فوضويّة، تشلّه كوطن في أعماقه، وتبطله ككيان في انعطافه، بعد فصل الرأس أي الدماغ عن حركة الجسد، وحركيّة الوجود. في الواقع المعيش يتبيّن لكلّ متابع ومراقب، بأن لبنان ساحة مستديمة موصولة بساحات أخرى. ومفردة الساحة استعملها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني بإمعان ذكيّ في مسرحيتهما الشهيرة "الشخص"، حين سأل المستنطق "بياعة البندورة" (فيروز)، "يا بنتي شو في خلف الساحة؟" فأجابته توًّا "ساحة". نحن في المدى المشرقيّ مجموعة ساحات موصولة في صراع كبير يحدث فيها وعليها، وتنفجر من رحمه العناوين الكبرى والصغرى محقّقة الضجيج الصارخ على الأرض، ومحدثة الثقوب في مكان والفجوات في مكان آخر. وفي هذا الاصطفاف كلّه، وبخاصّة في حرب مبهمة يقودها تحالف غير متكامل الأوجه مع تنظيم وجبهة متوحشين، وقبل الحرب، نحن نسير على ضفاف هذا البحر المتلاطم تحيط بنا أسوار بركانيّة، لنتحوّل إلى رماد عبثيّ.

هل يملك اللبنانيون في مسيرتهم المعقّدة بين أودية وعرة سحيقة، القدرة على خرق الحجب المرسومة، والبلوغ إلى حلول غير هشّة، تعيد الاعتبار إلى حيويّة النّظام السياسيّ، ليس بالنقاش المجرّد البارد، بل برؤى استراتيجيّة عميقة، ليس فيها حياد عن نصرة فلسطين ومواجهة كل تطرّف يزيغ النظر عن الحقّ النازف من على جنوبنا، وليس فيها تحييد بالمطلق عن صدام يأخذنا جميعنا إلى الهاوية، وقد بدأنا نتدحرج باتجاهها؟ المعلومات التي ساقها ويسوقها كثيرون تشهر وتجهر، وبعد تشخيص يسير، بأننا فقدنا القدرة على لملمة فتاتنا وحمل أجزائنا واحتضان شتاتنا، وجمعها في سياق واحد بعد أن تفتّتت أسس الدولة بالعمق السياسيّ والأمنيّ، والاقتصاديّ - المطلبيّ، وقد بات قطع الطرقات وحرق الدواليب هو الكلام المطلق والسائب، والذي لا قدرة للحكومة اللبنانيّة على المعالجة الجذريّة للأسباب الموجبة التي تسمح بذلك، ليس حتمًا بمنطق المقايضة، بل بمنطق المواجهة من زاوية الحفاظ على ما تبقى من ماء وجه للبنان ككيان ووطن ودستور وجيش وطنيّ حام.

مكوّنات لبنان كلّها، وعلى تفاوت رؤاها، وفي ظلّ هذا المشهد الحارق، مشدودة ورانية إلى ثلاثة عناوين مترابطة في جوهر الأزمة المعبرة عنها والناشئة منها:

1- ما يحدث في عرسال، وما نتج عن أحداثها من تداعيات مؤلمة، أدّت إلى خطف العسكريين، وما آل إليه هذا الخطف من قطع للطرقات.

2- رئاسة الجمهوريّة بمعناها المؤسساتيّ والسياسيّ المستمدّ من كيانيّة الرئيس وتأصّلها في الأرض اللبنانية.

3- قانون انتخاب نيابيّ يبقى في منعطفاته جوهر النظام السياسيّ، معبّرًا عن هويتّه التعدديّة بالمعنى الطائفيّ، ومترافقًا مع إمكانية التمديد للمجلس النيابيّ.

تشي تلك العناوين الثلاثة، بخصوبة الحالة العبثيّة في العمق اللبنانيّ، وشحّ عميم عند الطبقة السياسيّة التي لا تملك مفاتيح الحل والربط بكلّ المعايير. ذلك أنّ الطبقة السياسيّة برمّتها، تحيي ذاتها بإفلاسها، فكيف تنمو الحياة بالإفلاس؟ وتجترّ الخطاب السياسيّ بلا معايير وآفاق، فيخلو من التجسيد في سياق صراع المفاهيم المتداخل بصراع الأمم بين هذا المعسكر أو ذاك.

ففي العنوان الأوّل، أي في مسألة عرسال، تساءل عدد كبير من المراقبين عن عدم إكمال المعركة فوق جبالها وعلى أرضها وحسمها قبل وقوع الواقعة الكبرى. كانت المعركة في أوجها تصاحبها أدعية اللبنانيين بظفر الجيش بالقضاء على هذا التنظيم المقيت، فإذ بهيئة علماء المسلمين يتداخلون كوسطاء، أفضت وساطتهم إلى عدم إكمال المعركة في المطلق وتسهيل اختطاف عناصر من الجيش وقوى الأمن حتّى الولوج إلى مقايضة مع السجناء في سجن رومية. وعندما قرّر الجيش مداهمة المخيمات للبحث عن إرهابيين داعشيين وقف هؤلاء في وسط الاتهام الواضح لمؤسسة اعتدي عليها فإذ بها المعتدية بنظر هؤلاء. يورد بعضهم في هذا المجال بأن صعود هؤلاء ما كان ممكنًا لو خلت الأرض من بيئة حاضنة في الداخل وغيره. ومسألة هؤلاء يجب أن تعرض على دار الفتوى بجديّة ووضوح، وعلى الشيخ عبد اللطيف دريان، المفتي الحواريّ الناضج والرّاشد، كما أشارت بعض المصادر السياسيّة لتبيان الموقف الإسلاميّ الصحيح، واستثمار هذا التبيان من هذه المرجعيّة الروحيّة والوطنيّة وبعد خطابه البليغ يوم تنصيبه، كرافعة للجيش لكي يستكمل سعيه الحثيث في القضاء على الإرهابيين. وهذا حافز بدوره لتدعيم موقف الدولة اللبنانية بعدم المقايضة المتلاشية القائمة على الاستجداء. فالقدرة موجودة لاقتحام هؤلاء في أسوارهم، من خلال الأوراق التي تمتلكها الحكومة اللبنانيّة، والتي لها طاقة قلب الطاولة رأسًا على عقب.

وفي العنوان الثاني، أي رئاسة الجمهوريّة بمعناها المؤسساتيّ والدستوريّ، تشير بعض المعلومات إلى عقم الحلول معطوفًا على عدم قدرة اللبنانيين على الحسم الدستوريّ والسياسيّ بانتظار ما يمكن أن يؤول إليه التفاعل الإيرانيّ-السعوديّ سلبًا أو إيجابًا، وإنسيابه في سلوكيات تسهيل وتسييل عملية الانتخاب أو عدمه. الحراك الداخليّ لا يزال أسير تلك الرؤى بالاصطفاف السياسيّ المعهود، وليس فيه أيّ اختلاط بالحقيقة الدستوريّة الملحّة بانتخاب رئيس للجمهوريّة في المهل الدستوريّة السليمة. ما يجدر الاعتراف به وكما لاحظ عدد كبير من المتالبعين، بأنّ البون بات كبيرًا بين الحقيقة الدستوريّة والواقع السياسيّ الضّاغط والنافر والخالي من أيّ اتفاق سياسيّ موضوعيّ على الرئيس أو على موقع الرئاسة في فرادة هويّتها الطائفيّة على مستوى لبنان والعالم العربيّ. فهي مطلّ إمّا أن يكون أجوف، بحيث نحافظ على الهويّة برئيس يبقى مجرد صورة، أو أن يكون مليئًا برئيس يمثّل المدى الذي انطلق منه بوجدانه وعقله.

لا يستطيع لبنان التحرّر من واقعية الصراع، ومن كونه ساحة، انتخاب رئيس للجمهوريّة أحد العناوين المتفجرة فيها. لكن السؤال الذي تطرحه مصادر عديدة ومتنوعة لا صلة لها بالاصطفاف الرتيب، هل يتحمّل لبنان في ظلّ تفاقم الأزمات واستعدادها للانفجار على أرضه، أن يبقى بلا رئيس للجمهوريّة يخرق الحجب ويعيد الاعتبار للتوازن المفقود؟ إنّه لخليق باللبنانيين أن يقتنعوا بتسوية حقيقيّة تقوم على ما تمت تسميته آنفًا بتفاهم الأقوياء. تفاهم الأقوياء لا يقود بالضرورة إلى شخصانيّة النظام السياسيّ في لبنان، ولكنّه يؤمّن حتميّة الانتظام السياسيّ المتوازن في ظل تلاقي رؤساء يمثلون الوجدانات الطائفيّة بأكثرياتها المطلقة، والتي بدؤها انتخاب رئيس للجمهوريّة قويّ وعادل وجامع للمتفرقات إلى حال واحد.

أمّا العنوان الثالث، المرتبط بقانون انتخاب والتمديد للمجلس النيابيّ الحاليّ، فيشي بعقم كبير. لقد تساءل كثيرون في خضمّ النقاش حول قانون انتخابات عن أسباب تهريب هذا الموضوع بعدما دخل مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ رحاب المجلس النيابيّ انطلاقًا من توافق القوى المسيحيّة الأساسية حوله وعلى رأسها الصرح البطريركيّ في بكركي، لا سيّما أن دراسات عديدة أفضت إلى أنّه القانون المثاليّ الذي يؤمّن المناصفة الفعليّة، ويكرّس التوازن الطائفيّ ويعيد الاعتبار إلى الميثاق الوطنيّ. عن أيّ قانون نحن نتكلّم، وعن أيّ مجلس سينتخب رئيسًا إذا تمّ التمديد له خارج ما هو شرعيّ ودستوريّ؟

كلّ هذه العناوين ألغام متفجرة، يبقى لبنان أسيرًا لها، إلى أن يستبق الانفراج بين السعوديّة وإيران، إذا حان أوانه، كل انفجار يشاء أن يستهلك لبنان ساحة لنيرانه.