لمثل هذه المواقف تُرِك سعد الحريري. لمثل هذه الأوقات غدا أشبه بحاجةٍ. لمثل هذه الأسباب يُمنَح الكلام وحده وتتلبّسه الحكومة وكأنه موقفٌ رسميٌّ صادرٌ عن الطرف الحكومي المناسب للردّ المناسب. للردّ على الائتلاف السوري وتحصين المؤسسة العسكرية من أيّ انتقادات.

لم تكن زيارة الحريري الأخيرة الى لبنان على قِصَر عمرها عبثيّة أو تفقديّة في المفهوم الضيّق للكلمة. أتى الحريري بمهمّة واضحة عنوانها: الجيش اللبناني. مهمّة غلّفتها الهبة السعودية فيما حملت في طياتها نقاطًا كان لا بدّ من أن يضعها الحريري بشخصه على حروف تفوّهات أبناء تياره.

أراد أن يقول...

قالها الحريري بوضوح يومها على ما علمت “​صدى البلد​” في اجتماعات التيار الضيّقة وطلب من الحاضر أن يُعلِم الغائب: “إلا الجيش”... ذاك الاستثناء سرعان ما وجد ترجماته العلنية في أفول نجم نوّاب الشمال المتفلّتين والذين يحرجونه في كلّ مرة حتى إن منهم من لم يقدّم ترشيحه في سلسلة ترشيحات “المستقبل” الأخيرة، فيما أحدث بعضهم الآخر انعطافةً قياسيّة تجاه الجيش. فعل الحريري ما فعله في البيت الداخلي ورحل تاركًا علامات استفهام عن سبب لاعودته بعدما هُيِّئ للكثيرين أنه رجوعٌ نهائي. لم يغِب من بعيد عن المواقف الداعمة للجيش في غير مناسبة قبل أن يخرج أمس الأول عن صمته ليردّ على “إهانة” الائتلاف السوري للمؤسسة العسكرية. أراد ببساطة أن يستكمل حكاية “غسل يديه” من معارك عرسال وإرهابييها. أراد أن يقول: أنا الزعيم الوطني السني المعتدل أرفض المساس بهيبة الجيش. أراد أن يعلنها للمرة الألف أن “المستقبل” ليس امتدادًا للمتشددين من دون أن يغفِل إبقاء الخيط معلقاً حفاظًا على خطّ الرجعة ومراعاةً لنفوس القاعدة الحاقنة.

توزيع أدوار؟

ربّما كان ردّ الحريري (الرئيس سعد) على الحريري (الأمين العام للائتلاف نصر الحريري) مبادرة شخصيّة بحت يرفض أبناء التيار الأزرق توصيفها بغير ذلك ركونًا الى حقيقة وطنية الرئيس الحريري وعدم حاجته لـ “دفشة” من هنا وحافز من هناك ليدافع عن مؤسسات الدولة وفي مقدّمها الجيش، إلا أن مصادر في 8 آذار تشير عبر “صدى البلد” الى أن “ما صدر عن الحريري - وهو موقفٌ مرحّبٌ به في طبيعة الأحوال ويُعتبر أقل الواجب تجاه المؤسسة العسكرية- إنما هو استكمالٌ لسياسة توزيع الأدوار التي تنتهجها حكومة المصلحة الوطنية، خصوصًا أن الحريري هو الأكثر تأثيراً في هذا المجال بما أنه داعمٌ للائتلاف بصورةٍ علنية وصريحة في وجه الرئيس بشار الأسد، وبالتالي لبيانه الردّي أثرٌ أقوى من ردّ أي شخص آخر حتى رئيس الحكومة نفسه”.

موقف طبيعي

ترفض مصادر “المستقبل” عبر “صدى البلد” محاولة الغمز من باب “تكليف الرئيس الحريري قول ما قاله ليتبيّن وكأنه موقف لبنان الرسمي، فقد يتبنى لبنان هذا الموقف ولكن أحدًا لا يمكنه التشكيك في احتضان الرئيس الحريري وتياره لمؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش”. وتؤكد المصادر أن “ما صدر عن الحريري هو موقفٌ طبيعي. فبعض الإعلام كان يروّج لمواقف مغلوطة عن تيار المستقبل ودعمه للدولة ومؤسساتها الدستورية والعسكرية وهو دعمٌ لا نقاش حوله وإن كانت لدينا في بعض الأحيان ملاحظات على بعض الشوائب ولكن ذلك لا ينسف حقيقة دعمنا الكامل لهذه المؤسسات وعلى رأسها الجيش اللبناني الذي هو عماد الدولة وذراعها العسكرية الشرعية”. ولكن أحداً لم يردّ باستثناء الحريري، فهل هو موقفٌ رسمي تمّت مناقشته سلفاً مع الحكومة اللبنانية ليكون بمثابة ردٍّ رسمي موحد؟ تجيب المصادر: “الحريري هو رئيس تيار المستقبل وأكبر كتلة برلمانية وزعيم على مستوى الوطن، لذا من البديهي أن يكون لكلامه وقعٌ مختلف عن كلام الآخرين مع احترامنا للجميع، من دون أن ننسى أنه يدعم المعارضة السورية ولا يزال وهذا الدعم السياسي والإنساني لن يتوقف بعد موقفنا ولكن عندما تكون هناك أمورٌ تستوجب منا الردّ فلن نتأخر خصوصًا متى تعلق الأمر بما يمسّ بشعارنا الذي نرتقي به ألا وهو: الوطن أولاً... حينها فقط تنتفي المساومات”.

عودوا الى أدبياتنا...

وما إذا كانت عودة الرئيس الحريري الموقّتة ثبّتت “المستقبل” في حضن الجيش خصوصًا في ظلّ علامات الاستفهام الكثيرة التي حامت حول بعض مواقف النواب المنتمين اليه والمغرّدين خارج سربه، تشدد المصادر على أننا “جميعنا في حضن الوطن، والجيش في حضن الوطن كما نحن في حضنه، وتيار المستقبل يسير دائمًا وأبداً في هذا الاتجاه (مشروع الدولة)، ومن يعود الى أدبياتنا وخطاباتنا يعلم جيداً أننا لم نقل يومًا عن الجيش سوى أنه عماد الدولة وهو مشروعنا منذ أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري”.

انتقاد “الابن الضال”

لم يقلها السنيورة هذه المرة. أخذها الحريري شخصيًا على عاتقه وهو الذي تكرر على مسامعه كلامٌ كثيرٌ عن وجود نهجين داخل تياره. لا يرضيه الأمر تمامًا كما لم يرضِه أن ينتقد الائتلاف جيش بلاده عوض الدفع في اتجاه تحرير المخطوفين العسكريين. كان في إمكانه أن ينضمّ الى قافلة الساكتين عن “إهانة” الائتلاف من على منبر دولي (مجلس الأمن) خصوصًا أنه فكّر في قرارة نفسه أن أرباب الدفاع عن الجيش لم يعلقوا على البيان، ولكنه لم يفعل. ربّما على حدّ توصيف بعض مصادر 8 آذار أخذها الحريري على شاكلة “انتقاد الابن الضال لإعادته الى رشده خصوصًا أن الشريحة الكبرى في لبنان لا يعنيها الائتلاف ولا تعترف به ولا تمنحه شرف مهاجمته كي لا يبدو وكأنها منحته شرعية الوجود، وبالتالي لا لوم يمكن أن يؤخذ على محمل الجدّ أكثر من ذاك الذي قد يصدر عمّن جاهر ولا يزال بآلاف البطانيات وعلب الحليب”.