ثمة انحسار للخطاب الايديولوجي واندثار لمقولة حرب المستضعفين على المستكبرين، وتلاشٍ لمشروع الاسلام السياسي الجامع في حده الادنى، بعدما اظهرت هذه العناوين وتطبيقاتها انها فقدت بريقها وجاذبيتها وفشلت في تقديم نموذج للحكم او السلطة يعتدّ بها. وكشفت أنها اسوأ بكثير مما حملته التجربة القومية العربية التي قامت على انقاضها رافعة شعار "الاسلام هو الحل". شعار كشف كم ان شهية السلطة لدى الاسلاميين هي التي تجيير الدين كوسيلة في سبيل غاية السلطة.

كما كشف انحسار هذا الخطاب فشل الاسلاميين في تحقيق مشروعهم بمقاربة القضية الفلسطينية. إذ شكلت حرب غزة الاخيرة سقوطا مدوّيا لمقولاتهم العسكرية والسياسية، بعدما قام مشروعهم في مواجهة مشروع التسوية الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات عبر اتفاق اوسلو عام 1993.خلص المشروع الاسلامي الى مشروعات تتقاسمها ايران وتركيا لتدرج في سياق مصالح هاتين الدولتين بالدرجة الاولى وفي صراع النفوذ على المنطقة العربية. ولم يعد الاقتراب من السلطة الوطنية الفلسطينية خيانة بل شهدنا تنافسا بينهم على بناء علاقات وثيقة مع "جماعة اوسلو".

ليس هذا فحسب، فالتجرؤ على القتل باسم الدين وفي سبيله طوى نهائيا حرمة دم المسلم، بل الاسلامي. فهذه الجماعات غرقت في الدماء ولم يعدّ يهز مبادئها قتل المسلم. ونتحدث عن المسلم لأن في ادبيات هذه الجماعات، وما نشأ عليه محازبوها، التناقض مع اسرائيل هو تناقض ديني. لذا كانت هذه الجماعات، ومنذ نشوئها، تشكك بالمنطلقات غير الدينية للصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، معتبرة ان قضية فلسطين لا تعني ابناء الشعب الفلسطيني فحسب بل كل المسلمين في العالم. ولطالما كانت هذه المقولة سبيلا لمصادرة القرار الفلسطيني المستقل، باسم القومية حينا وباسم الاسلام حينا آخر. ودائما في العنوانين كان الهدف ضرب وحدة القرار الوطني الفلسطيني والاستثمار في مشروع الانقسام الفلسطيني ومأسسته. وهذا ما شهدناه طيلة عقدين من الزمن على الأقل، ومن دون ايّ مكسب سياسي فلسطيني. بل نشهد خسائر اظهرت ان مسيرة الاسلاميين في مقاربة القضية الفلسطينية لم تقدم ما يسّر الشعب الفلسطيني وقضيته.

أيضا الغرب الاستعماري و"الشيطان الاكبر" لم يعد عدّواً. فالعداء بين الاسلاميين انفسهم فاق هذا العداء، والوقائع السياسية والميدانية تكشف حجم التنسيق والتعاون بين "الملائكة" و"الشياطين" والاتهامات المتبادلة بين الاسلاميين بالتنسيق مع اميركا شاهد حيّ هذه الايام. والمواقف اللفظية التي تصدر من بعض القيادات الايرانية المنددة بالغرب واميركا ليست الا محاولة ثارة الغبار حول صفقات وتنسيق وتعاون في الميدان. فرغم التدخل الاميركي الواضح عبر التحالف الدولي، لم نسمع من عتاة الاسلاميين الايرانيين واتباعهم اي دعوة لقتال الاميركيين في العراق، ولا تنويها بمن يقاتلهم، بل الثابت ان الدخول الاميركي مجددا الى العراق تمّ بتنسيق وتفاهم ورضى ايراني.

كما لم نشهد صدور اي دعوة من قبل "محور الممانعة"، ان كان موجودا بعد، او من ايران، نشاء حلف لمواجهة التدخل الاميركي والغربي في سورية او العراق او غيرهما.هذا الفراغ الذي سببه انحسار الخطاب الايديولوجي ضد الغرب، وتراجع قرقعة السلاح في وجه العدو الاسرائيلي، وطيّ شعار حرب المستضعفين ضد المستكبرين ومقولة الشيطان الاكبر، يجري ملؤها بشعارات جديدة تكشفها وسائل التعبئة الجديدة، بما تحمله من عناوين وادبيات، ان لم تكن جديدة، إلا أنها تتصدر المشهد. والاستقطاب المذهبي هو الوسيلة المعبرة عن الفشل الذريع للاسلام السياسي.

فإذا كان هذا المشروع في بعض ادبياته يهدف الى بناء مشروع اسلامي تحرري في العالم الاسلامي عابر للمذهبيات، ها هو اليوم يبدو اكثر احترافا في استخدام العنوان المذهبي لتبرير قتاله وانخراطه في حروب تدمير المنطقة العربية ومجتمعاتها. وكذا المشروع الاسلامي الذي اقترحته ايران على العالم الاسلامي في العام 1979 والذي جذب في بداياته بيئات سنية عربية واسلامية اكثر من البيئات الشيعية، ينتهي اليوم الى ان يعجز عن الترويج لنفسه في العالم الاسلامي وفي العالم العربي الا بكونه مشروع حماية او استثمار للشيعة.نهاية الاسلام السياسي ليست هنا فقط. فلقد تقدم تنظيم داعش بكامل العدة الفقهية والدينية التي استخدمها اقرانه في العقود السابقة: الخلافة الاسلامية وشرع الله والعداء للغرب واميركا ومقاومة سايكس بيكو... ليست المشكلة في الشعارات او الطروحات بل في ان ما تنطق به هو كلام الله ورسوله والراد عليه كالراد على الله، وفي هذا المنطق لا فرق بين اسلامي وآخر سواء كان في عداد الحرس الثوري او تنظيم داعش...