كان الكثير من الكتّاب يسمون في الماضي بالملاحظين، نسبة للملاحظة، فليست مهمة الكاتب عندما يسجل ملاحظة ويتحقق من صحتها بنسبة عالية أن يحجبها عن الناس، لحين تمكنه من ربطها بإحكام بمجموع العناصر المحيطة بها، ليقدم تفسيراً متكاملاً لكل ما يتصل بها.

قامت الابتكارات العلمية الكبرى على التأسيس لملاحظات عاجزة عن التحول إلى نظرية متكاملة مترابطة، على ملاحظات مثلها سبقتها، ليأتي ملاحظون لاحقون فيصيغون بعد أجيال عديدة أحياناً النظرية التي تفسر الظواهر موضوع الملاحظات قديمها وجديدها.

علاقة «القاعدة» بأميركا و«إسرائيل» حالة إشكالية لا تحتمل التفسير الأحادي وفقاً لمعادلة «القاعدة» صنيعة أميركية، ونقطة على السطر، فالحرب التي تخوضها «القاعدة» بوجه أميركا في كثير من المواقع والأزمنة ثابتة وحقيقية، كما الحرب التي تخوضها أميركا بوجه «القاعدة»، وصوغ معادلة «القاعدة» عدو لأميركا، يصطدم بالكثير من الحالات التي لا تبدو فيها «القاعدة» إلا منفذاً على درجة عالية من الكفاءة للسياسات والأجندات الأميركية التي تعجز عن تنفيذها الجيوش الأميركية.

المجاهرة بالعداء بين «القاعدة» وأميركا وبين «القاعدة» و«إسرائيل» كان سمة ملازمة لهذه العلاقة الإشكالية، فكان يصل حد الاستحالة أن نجد تصريحاً لمسؤول من «القاعدة» يمتدح أميركا إلا في مرحلة القتال ضد السوفيات انطلاقاً من المفاضلة بين شيوعية «كافرة» تحظر كل نشاط ديني أو شعائري للمسلمين، بينما يلقى المسلمون في أميركا ودول الغرب فرصة ممارسة شعائرهم وإشهار دينهم، لكن من دون أن نجد من «القاعدة» تجاه «إسرائيل» إلا الكلام الإسلامي التقليدي بإعلان حالة العداء ولو لم يتقدم كمسار جهادي لـ«القاعدة».

بالمقابل كانت «القاعدة» في مرحلة قتال السوفيات في أفغانستان «شباب الجهاد الإسلامي» الذي يحظى بالتقدير والمساندة ثم صارت عدواً إرهابياً منذ بدأت نشاطاتها خارج أفغانستان، وتوجت في الحادي عشر من أيلول كطليعة للتنظيمات الإرهابية الأشد خطراً، أما بالنسبة لـ«إسرائيل» فمنذ البدايات عوملت «القاعدة» إعلامياً على الأقل، كتنظيم إسلامي خطر.

في منشأ العلاقة لدينا كلام موثق في مذكرات زبيغينيو بيرجنسكي في عهد الرئيس رونالد ريغان عام 1980، عن اجتماعات ضمته مع القائم بالأعمال السعودي يومها بندر بن سلطان، للتشاور والتنسيق بكيفية تنظيم حالة جهادية إسلامية للقتال في أفغانستان، وتفاصيل عن دور أسامة بن لادن وعبد الله عزام في التأسيس.

منذ أحداث الحادي عشر من أيلول انتشرت تحليلات كثيرة عن دور «إسرائيلي» بالتنسيق مع «القاعدة» وعن تغاض أميركي، لكنه بدا أقرب للحبكات البوليسية الهوليودية، على رغم احتمالية الصحة لشدة ما يمتلئ عالم الاستخبارات بالغرائب.

ما لا يمكن إنكاره هو أن تفجيرات سبتمبر كما يسميها الأميركيون، جاءت تؤدي وظيفة كانت رسمتها وثيقة للمحافظين الجدد باسم زعامة القرن الواحد والعشرين، ووردت كنبوءة أو كصلاة استسقاء مرات عدة على لسان أحد أبرز منظري المجموعة ريتشارد بيرل، الذي قال عام 1998 إن زعامة أميركا تتوقف على احتلال العراق وأفغانستان، والإمساك بمنابع وممرات النفط والغاز الأهم في العالم، وأن هذا لن يحدث إلا إذا تحررت أميركا من عقدة فييتنام، وتجرأت على خوض البحار والمحيطات بجيوشها مجدداً، ويبدو أن هذا لن يحدث ما لم تصب أميركا بما أصيبت به في بيرل هاربر، والقصد الهجوم الانتحاري للطيارين اليابانيين الذين فجروا أنفسهم بطائراتهم، في سفن وميناء بيرل هاربر الأميركي، فأحدثوا صدمة كارثية بررت الدخول الأميركي في الحرب العالمية الثانية، وبالفعل جاءت أحداث سبتمبر تلعب دور بيرل هاربر جديدة وجاء الخروج إلى المحيطات وجاء احتلال العراق وأفغانستان.

أما بالنسبة لـ«إسرائيل»، فالصلة بأحداث سبتمبر تتعدى ما قاله باتريك بوكانن بوصف حرب العراق بأنها «حرب دولة وحزب وزعيم، دولة ليست أميركا وحزب ليس الحزب الجمهوري وزعيم ليس جورج بوش، دولة اسمها «إسرائيل» وحزب اسمه الليكود وزعيم اسمه آرييل شارون»، وبوكانن الذي نشر مقالته في آذار 2003 في مجلة المحافظين، غير الجدد، في واشنطن هو مرشح منافس للرئاسة عام 2000 لجورج بوش داخل الحزب الجمهوري، ما يتعدى كلام بوكانن، هو تعليق الصحافي البريطاني روبرت فيسك على الأحداث بالقول: الذي غيّرته أحداث سبتمبر هو أن صور أرييل شارون، المطلوب للعدالة التي كانت تملأ شوارع الغرب بعد دخوله المسجد الأقصى واندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وحمام الدم الذي واجهها به شارون، قد حلت مكانها صورة نمطية للمسلم الذي اختصرته صورة بن لادن باللحية والعمامة.

في العراق أمامنا وقائع امتلأت بها الصحف الأميركية عن علاقة الجنرال ديفيد بتريوس بجماعة إسلامية تحمل اسم «جبهة النصرة»، وعن تزامن التخلص من أبي مصعب الزرقاوي بخروج أبي بكر البغدادي من السجون الأميركية في أبو غريب، وقيامه بالسيطرة تدريجاً على بقايا تنظيم «القاعدة»، والمفارقة أن «النصرة» يومها لم تكن تمثل «القاعدة»، والبغدادي كان هو «القاعدة» حتى خمسة أعوام لاحقة لتنقلب الصورة اليوم.

المفارقة أيضاً أن بدء الأزمة في سورية الذي تزامن مع الرهان على دور الإخوان المسلمين، لم يشهد سوى استحضار فردي لمجموعات «القاعدة» بالآلاف، لكن من دون تظهير للتسميات، حيث بقي الاسم المهيمن والذي تستظل به هذه المجموعات هو «الجيش الحر».

مع ظهور التسميات «جبهة النصرة» و«داعش»، لم يفهم أحد وحتى الآن أسباباً تفسّر الانقسام بينهما، والصورة المروجة لكل منهما، فمرة يقال أن «النصرة» تنظيم محلي و«داعش» تنظيم أممي، علماً أن الصحيح هو العكس، فـ«داعش» تنظيم محلي للعراق والشام، و«النصرة» هي الممثل الرسمي المعتمد لتنظيم «القاعدة»، علماً أن ثقل الأجانب المنضوين في صفوفهما يتجه نحو «داعش» وليس نحو «النصرة».

«النصرة» تبايع وتلتزم شروط البيعة لأيمن الظواهري زعيماً وخليفة للمسلمين و«داعش» يبايع أبي بكر البغدادي، ولا فرق بين الخليفتين، حتى أن الرائج هو أن «داعش» تنظيم دموي و«النصرة» أقل دموية تنفيه كل سلوكياتها.

يبدو التقسيم من أي ملاحظ جغرافي، تقسيماً من فوق لأدوار تتوزع الجغرافيا، على غير مسألة المذهبية والعقيدة والعصبية، بل بعناية لها وظيفة دقيقة ومحسوبة بالجغرافيا، فمن يفترض أنه فرع «القاعدة» في بلاد الشام بل داخل بلاد الشام نراه يتركها فتضمحل «النصرة» شمالاً تدريجاً لحساب «داعش» ويضمحل «داعش» جنوباً تدريجاً لحساب «النصرة»، كأنّ ثمة اشتباكاً بينهما يجب أن يصدقه المنتمون للفريقين، لكن ثمة مايسترو يتولى إدارته بعناية.

الاسم كان «القاعدة» فلماذا غيب، وغابت معه ذاكرة ربما لا تزال ترتبط في مشاعر الغربيين بأحداث سبتمبر، بينما «النصرة» تسمية لطيفة ناعمة تترك على السمع وقعاً محبباً، من المساندة والمؤازرة واللهفة والنجدة، فيناسب منحها صفة الاعتدال، و«داعش» اسم بوقعه الموسيقي وتركيبه الألسني، ذو إيقاع يثير الرعب، والخوف ويوحي بالحرب، ويستعير من الوحش الحرف الأخير ويبقيه أخيراً، واليوتيوب حاضر للمؤازرة في ترسيخ صورة الاعتدال وتغييب صفة الفرع الرسمي المعتمد لـ«القاعدة» عن «جبهة النصرة»، وترسيخ صورة الوحشية والدموية والتطرف عن «داعش».

اسمان صنعتهما دراسة نفسية معمقة، لتكامل وظيفي بينهما، وحرب إعلامية مرافقة بعناية لترسيخ صور نمطية لكل منهما لا تطابق الحقائق الموضوعية للتكوين والأدوار.

«إسرائيل» تعلن رسمياً التعاون مع «النصرة»، بلسان وزير حربها موشيه يعالون، وتتابع كتابات ومواقف من مواقع لا رابط بينها لمواصلة الإيحاء بصفة الاعتدال عن «جبهة النصرة»، وعمداً يتم تغييب كون «النصرة» الفرع الرسمي لـ«القاعدة».

«داعش» يرعاه الأتراك و«النصرة» ترعاها قطر وعلناً، وهما وكيلان معتمدان للسياسات الأميركية وتربطهما صلات جيدة بـ«إسرائيل».

لاحظ ملاحظ فهي ملاحظات ليست مهمة صاحبها تقديم نظرية متكاملة.