"إنّ لبنان حاجة عربيّة كما ورد في لسان العرب أي حاجة عظيمة، وإنّ لبنان حاجة لبنانية كما يرد في قانون الدول، أي أن لشعبه دون غيره السيادة".(1)

الأزمات الوجوديّة المقتحمة للمدى اللبنانيّ، تبيح للبنانيين التمعّن بهذه الرؤية التي نسجها رئيس المجلس النيابي السابق ​حسين الحسيني​ من باب تجربته في صياغة اتفاق يعرف دولته ويعرف الكثيرون منّا أنّه مات حين ولد، ولم يكن سوى حركة تسوويّة وما كان بقراءة تكوينيّة كان يجدر أن تأخذ لبنان إلى مدى التوازن المطلوب لوطن نشأ واقعيًّا من مركّب طائفيّ ومذهبيّ، موصول بحراك إقليميّ دوليّ ساهم في محطات تاريخيّة بتقليصه ومن ثمّ بتوسيعه، ولا أحد يعرف غدًا إلى أين؟

غير أن كلمته في افتتاح المؤتمر حول ربع قرن على نشوء الطائف، فيها الكثير من الرؤى الوطنيّة المضيئة، التي تتيح للمراقبين أن يستخلصوا العبر في مسرى الأحداث المهيمنة على أرض الواقع بمفرادتها وعناوينها وتفاصيلها. فتتراكم الأسئلة كثيرة ومديدة ليس حول طائف أظهر الحسيني عرّابه، الفجوات التي أصابت منه شللاً ليس بسبب الانقلابات المتراكمة عليه كمثل القول بتشريع الضرورة، وتمديد الضرورة، ولكن بسبب أنّ اللاعبين السياسيين اللبنانيين، ولدت ممارساتهم من رحم من شاء لهذا الاتفاق أن يكون مرحليًّا يؤدّي حالة الانتقال، وليس تكوينيًّا تأسيسيًّا ثابتًا له مفاعيله على مستوى بنى الدولة والمؤسسات، وقد أدّاها. وتاليًا، لكون سلوكيّاتهم أخذت لبنان إلى عدم استقرار مزمن، فما عبّر الإمساك عربيًّا كان أو إقليميًّا عنه أو ترجمه، فبطل لبنان، بهذا المعنى، أن يكون حاجة عربيّة لتأكيد الفرادة المطلوبة في المدى العربيّ، والتي ظهر عليها البلد الصغير، فيما التماسك مفقود ومخطوف، ونعيش في كلّ التفاصيل ثقافة التلقّي والإملاءات وندوّنها في العقول، بدلاً من أن نروّضها على ابتكار صياغات سياسيّة جديدة تحاكي الإنسان اللبناني، وتعبّر عن تماسكه مع ذاته، فتجدّده وتجذّره في أرض لبنان، بخطاب وطنيّ جديد في أزمنة العواصف الهوجاء، "يبقى فيه لبنان حاجة لبنانيّة... أي أن لشعبه دون غيره السيادة"، وبهذا المعنى، لم يعد لبنان بدوره حاجة لبنانيّة يظهر نفسه بها على أنّه رسالة باهرة للأمم.

من العناوين التي أظهرت الاختلال في التكوين السياسيّ، عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، ومن ثمّ التمديد الثاني للمعدّ للمجلس النيابيّ. يطلّ العنوانان من حالتين يعاني منهما لبنان، الخطر الوجوديّ المهيمن عليه من القوى التكفيريّة وارتدادات العواصف من خلف الحدود إلى القلب، ومن غياب ناظم قانونيّ ودستوريّ للّعبة السياسيّة، فتبقى في إطار الانضباط السياسيّ المتوازن، والمعبّر عن ديمومة الميثاق، كعقد سياسيّ كبير يؤمّن المناصفة ويؤصّلها برضى الأطراف السياسيّة وتوافقها.

وقد لفت الانتباه إلى أنّ التمديد إذا أريد له التمدّد والاستكانة، فهو سيحمل حتمًا اللبنانيين إلى الاحتجاب السياسيّ والتكوينيّ لكونهم مصدرًا للسلطات، بل مصدر انبثاقها بالمعنى الدستوريّ والمؤسّساتيّ، وتاليًا، سيثبّت أنّ اللبنانيين باتوا "شعوبًا" لأمم طائفيّة، وليسوا "أمّة"، بمعنى أنهم مواطنون يمارسون السيادة. يشي الواقع إلى البون الكبير ما بين التوق والواقعية السياسيّة Real politics ، فالتوق أن لا نقع في خطيئة التمديد بحسب قول البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي، فهو لن يباركه. وهو هاتك للمشيئة الدستوريّة، وممزّق لكينونة الممارسة الديمقراطيّة ولو بحدّها الأدنى، وهذا عينًا ما أدى بالحسيني للاستقالة من المجلس النيابيّ بصوت صارخ، لأنّ الممارسة الأولى أخذت المجلس النيابيّ إلى التناقض البنيويّ، في معنى وجوده ممثّلاً للشعب اللبنانيّ. فالنائب لا يمثّل وبحسب الدستور منطقته وطائفته وعشيرته، بل يمثّل وبحسب الدستور "الأمّة اللبنانية جمعاء"، انتخابًا وليس تمديدًا. والثابت، أنّ القوى السياسيّة المهيمنة على المجلس النيابيّ، استهلكت النقاش في مسألة مشروع قانون انتخابيّ، وحين وصلت اللجنة النيابيّة آنذاك إلى قبول بمشروع يؤمّن المناصفة الفعليّة، تمّ الانقلاب بحجّة فقدان المشروع ميثاقيّته وهو عبّر عنها، لكونه عالج الطائفيّة المتلاشية المنطلقة من عمليّة الاستيلاد لمكوّن كبير وجوهريّ وحجب موجوديّتهم، بطائفية متوازنة تعيد الاعتبار إلى المناصفة الفعليّة وتؤدّي المبتغى بتساوي الجميع ضمن مبدأ "لبنان دائرة واحدة". أمّا الواقعيّة السياسيّة التي يفترض النقاش حولها بذهنيّة منفتحة بحسب مصدر شارك في افتتاح مؤتمر الطائف، تتجلّى بهذه الرؤية: "هل الأرض اللبنانيّة بوعورة الأحداث واشتداد للعواصف مؤهّلة لعملية الانتخاب وعلى أيّ قانون؟ فليس من اتفاق على القانون، وإذا عدنا إلى قانون الستين فمعنى ذلك أنّنا نحتّم استمرار هيمنة طائفة على أخرى، فعلى أي أساس تجرى الانتخابات؟" وذهب هذا المصدر بعيدًا بالتساؤل، هل يستعمل طارحو التمديد العناوين الأمنية المنفلشة فيتماهون بها لتخويف الناس للقبول بالتمديد، بدلاً من معالجتها ومعالجة أسبابها بعيدًا عن أيّ اصطفاف مقيت، لكي تنتظم الحياة السياسيّة بأطرها الدستوريّة، أو أنّ هذه العناوين تبقى فعليًّا حائلاً دون إتمام الانتخابات والشروع بالتمديد؟" وينصح المصدر المشارك في افتتاح المؤتمر، المسيحيين، بقراءة مترويّة ومتوازنة، فاللحظة ليست للإمعان بالسجال في الدائرة المسيحيّة، أو الإمعان بجذب فريق منه للقبول بالتمديد بالمعنى العربيّ والخليجيّ للكلام، وفريق آخر لرفض لا يمت بصلة لأي حيثيّة إقليميّة، فالاتفاق حاصل بين السنة والشيعة والدروز على التمديد، وثمّة مسيحيّ مستولد، ومسيحيّ رافض... والمدى مفتوح لتمدّد التمزّق في الدائرة المسيحيّة إلى اللانهاية". وحين يسأل عن الحلّ: يجيب المصدر، "ثمّة فرصة للمسيحيين لكي يتموضعوا في وحدة وجوديّة كاملة، وللبطريرك المارونيّ مع البطاركة المسيحيين دور كبير يجب أن يؤدّوه بنحت صيغة وحدويّة هادفة، خالية من اللّفظ الشاجب المتكرّر، وعلى افتراض أنّ التمديد حاصل لا مفرّ منه، فما على المسيحيين ومن ضمن الصيغة الوحدويّة إلاّ أن يقبلوا به، (أي بالخطيئة الكبرى بحقّ الدستور والشعب)، شريطة أن يُحدّ التمديد بمدّة قصيرة جدًّا، والاتفاق على رئيس للجمهوريّة فاعل له حيثيّته التمثيليّة على الأرض، مقابل القبول برئيس حكومة قويّ له حيثيّته التمثيليّة على الأرض فيتأمّن التوازن المطلوب والهادف، حيث على أساسه، تتمّ المعالجات الأمنيّة الجذريّة، وتعبّد الطريق باتجاه قانون انتخابات تجرى على أساسه الانتخابات النيابيّة".

1-رئيس المجلس النيابي السابق حسين الحسيني في كلمته في افتتاح مؤتمر ربع قرن حول اتفاق الطائف.