تردّدت في الأيّام القليلة الماضية معلومات صحافيّة وإعلاميّة عن تحضيرات عسكريّة لوجستيّة كبيرة يقوم بها ​الجيش التركي​ لفرض "حزام آمن" داخل الأراضي السوريّة بعمق 35 كيلومتراً وبطول 110 كلم. وتحديداً بين منطقتي "أونجو بينار" و"كركميس" التركيّتين، مع الإستعانة بنحو 18,000 عسكري لفرض هذا الواقع الجديد بالقوّة. فهل هذا الأمر صحيح أو ممكن تنفيذه؟

مُروّجو هذا الخبر إستندوا إلى التصريحات الناريّة التي أطلقها أخيراً الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان وغيره من المسؤولين الأتراك غداة الإنتصارات الميدانيّة التي حقّقها أكراد سوريا على إرهابيّي تنظيم "داعش"، مؤكّدين الرفض المُطلق لأيّ كيان مُستقل كردي على الحدود مع تركيا، وكذلك إلى الإستعدادات الميدانيّة التي إتخذها الجيش التركي على الحدود مع سوريا، وخاصة عند بوّابة "مرشد بينار". ورأى مُروّجو هذا الخبر أيضاً أنّ الرئيس أردوغان قد يستغلّ الفراغ في الحُكم في تركيا حالياً على المستوى التنفيذي للهروب إلى الأمام عبر عمليّة عسكريّة تُحوّر إهتمام الرأي العام التركي من الصراع الداخلي على السلطة إلى المسألة القوميّة التركية، خاصة وأنّ الحجة التي يستغلّها تتمثّل في اللعب على وتر الحساسيّة التركيّة إزاء ​الأكراد​، وتحديداً إزاء خطر إقامة دُويلة كرديّة مُستقلّة على الحدود، الأمر الذي سيُشجّع حتماً أكراد تركيا على الإنفصال(1)، خاصة في ظلّ تقارير إعلامية عن عمليّات تطهير عرقي يقوم بها الأكراد في مناطق سيطرتهم في سوريا. وذكّر مُروّجو خبر التدخّل العسكري التركي الوشيك في سوريا بأنّه منذ نحو أربعة أشهر، وتحديداً في 22 شباط الماضي، توغّلت كتيبة من الجيش التركي داخل الأراضي السوريّة بهدف نقل رفات "سليمان شاه" وسحب مجموعة من 40 عنصراً تركياً كانت تُرابض هناك منذ ثمانية أشهر دون التمكّن من تبديلها، من دون أن تلقى أيّ مُقاومة، مُشدّدين على أنّ الجيش التركي قادر على فرض "حزام آمن" على الحدود بالقوّة.

في المُقابل، أدرج أكثر من خبير غربي التحضيرات العسكريّة التركيّة على الحدود مع سوريا، وإجتماعات مجلس الأمن القومي التركي، وتهديدات الرئيس التركي العالية السقف، في خانة الإستعراض الإعلامي الذي يُتقنه أردوغان، والذي يهدف إلى الظهور بمظهر البطل القومي المدافع عن مصالح تركيا العليا. وأكّد هؤلاء أنّ البرلمان التركي كان سمح للجيش في تشرين الأوّل من العام الماضي بالتدخّل عسكرياً في العراق أو سوريا في حال دعت الحاجة، لكنّ موازين القوى السياسيّة في البرلمان الجديد تبدّلت بعد الإنتخابات الأخيرة(2)، الأمر الذي يَستوجب تفويضاً جديداً. كما أنّ رئيس هيئة أركان الجيش التركي الجنرال نجدت أوزل رفض التحرّك عسكرياً في سوريا، ما لم يحصل على أمر خطّي مُباشر من السلطة التنفيذيّة التركيّة الجديدة. وبالتالي، طالما أنّه لم يتمّ حتى اليوم إختيار قيادة جديدة للبرلمان التركي المُنتخب، ولا تشيل لجنة الرئاسة، ولا تشكيل الحكومة الجديدة، من غير المطروح القيام بأيّ إجراء عسكري بشكل واسع. وأكّد الخبراء أنفسهم أنّ أيّ تدخّل تركي لفرض "حزام آمن"، لن يكون شبيهاً بتوغّل 22 شباط الماضي المحدود، باعتبار أنّ فرض واقعاً حدودياً جديداً بالقوّة العسكريّة، يعني تورّطاً تُركيّاً مباشراً في الحرب السورية، وهذا سيستدعي ردّاً عسكرياً مباشراً أيضاً من الجيش السوري، ومن الجماعات الكرديّة المُسلّحة، وربّما من أطراف أخرى.

وإنطلاقاً ممّا سبق، توقّع الخبراء الغربيّون أن يُواصل الجيش التركي التدخّل في المعارك الدائرة قرب الحدود التركيّة-السورية، لكن بسقف منخفض عبر تهريب السلاح هنا والسماح بمرور المُقاتلين هناك وربّما عبر قصف مدفعي أو صاروخي هنالك، وبالتأكيد من دون أن يبلغ هذا التدخّل مرحلة الإجتياح الميداني المُباشر.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ أردوغان يُحاول توظيف المعارك بين الأكراد و"داعش" قرب الحدود التركيّة في الصراع السياسي التركي على السلطة، لكنّه غير قادر اليوم على توريط كامل السلطة التركيّة الجديدة والمُنتخبة في الحرب السوريّة التي لم يدخلها عندما كان في ذروة قوّته السياسيّة. كما أنّ الحُجج التي يُعطيها أردوغان لا تُبرّر حتى تاريخه القيام بعمل عسكريّ كبير في الداخل السوري، وبالتالي لا يُمكن أن يحظى أيّ تدخّل بغطاء إقليمي أو دَولي. من هنا، يُمكن القول إنّه من غير المُتوقّع حصول أيّ تدخّل عسكري تركي واسع النطاق في سوريا في المدى المنظور.

(1)يبلغ عدد الأكراد نحو 18 مليون نسمة، ويُشكّلون نحو 20 % من المجتمع التركي.

(2)فقد فيها "حزب العدالة والتنمية" برئاسة رجب طيّب أردوغان الأغلبيّة، على الرغم من بقائه في الطليعة.