ليس حراك رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون مجرّد صرخة في فضاء لا يستوعب سوى الهباء المتطاير في مساحته اللامحدودة. بل هو تجسيد واقعيّ وتوطيد جذريّ لمواجهة شرسة مع آكلي حقوق المسيحيين في لبنان. ويتجلّى حراكه في ظلّ إحساس ملبّد بغيوم داكنة بأنّ هضم تلك الحقوق متماه بالكليّة مع محاولة تهجير المسيحيين من المدى العربيّ والمشرقيّ، والذي يقوده تنظيم "داعش" بتطرّفه الأعمى، وفي لبنان يقوده بفجاجة ظاهرة من ينوب عن التنظيم الارهابي والمتحالفون معه.

لم يعد الصراخ مجرّد تعبير، بل هو بركان بدأ ينفجر على المستوى المسيحيّ، متخطيًّا ما حاول بعضهم توصيفه بخبث بأنّ أزمة رئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون عائليّة، بإصراره على تعيين العميد شامل روكز قائدًا للجيش لكونه صهره. غير أن تلك الأدبيات النافرة في طبيعتها، تنتمي بمفرداتها وأدائها على المستوى الداخليّ إلى السياق التسطيحيّ-التسليعيّ، لكنّها في تكوّنها تجيء كتعبير منفجر بوجه هذا التراكم النوعيّ وليس الكميّ، المنطلق من الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، وهو حجر الزاوية لخريطة سياسية جديدة لمنطقة، ستبنى على منطق التوازن تدريجيًّا.

أوساط مراقبة متابعة لتفاصيل المشهد الداخليّ بدأت تقرأه حالة ارتداد استباقيّة في الشكل لهذا الزلزال المرتقب والمتدحرجة حممه من واقعيّة الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، وانغراسه على الأرض، وتكوّن المفردات السياسيّة من مضمونه وانفجارها على الأرض. أولى العلامات الظاهرة ليست في صراخ العماد عون، الذي لم يعد مجرّد صراخ بل ثورة مسيحيّة جذريّة، بل بردّات فعل انطلقت ممن عوّل على عقلانيّته في تصويب بعض المسارات والتقاط بعض العلامات للسعي نحو الترشيد في بيئته من باب فهم من كان على وصال ووداد معه. وتصف بعض المصادر كلام وزير الداخليّة نهاد المشنوق الأخير، بأنّه التقاط سلبيّ للعلامات، حين قال سينتصر القمر العربيّ على الهلال الفارسيّ، واستهلك هذا العنوان للتصويب على العماد عون، وشدّ العصب السنيّ ضمن دائرة "تيار المستقبل"، فيما كان إلى الأمس القريب بعقلانيّته ورحابته، ساعيًا إلى ترميم التسوية بين عون والنائب سعد الحريري في مسألة التعيينات الأخيرة، وهو الرّائد الأوّل في الحوار بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" الذي يمثّله باعتدال واضح.

كلّ هذا يبقى من قبيل الارتدادات الناتجة من زلزال الاتفاق بالتفاصيل اللبنانيّة. غير أنّ ما يطالب به عون في حقيقة الأمر ليس مرتكزا على محتوى التغييرات والهزّات الارتداديّة، بل يرتكز بالدرجة الأولى على التكوين اللبنانيّ المختلّ ميثاقه بسبب تلك الممارسات الشاذّة التي تستهدف المسيحيين في لبنان بعدم الوقوف عند مطالبهم. وفي واقع الأمور إنّ المطالب لا تختصر بتعيين العميد شامل روكز قائدًا للجيش، بل في ترسيخ الحضور على المستويات كافّة من التعيينات إلى رئاسة الجمهوريّة. ويشعر كثيرون مع العماد عون بأنّ أكل حقوقهم وهضمها محو لهم وإبطال لدورهم. فالمعركة بالنسبة إليهم معركة وجود وحضور ضمر في لبنان منذ سنة 1990 حتّى الآن تحت أشكال وألوان عدّة، والمشيئة كلّها عند الآخرين أن يبقى المسيحيون مفعولاً بهم. هكذا يراد للمسيحيين أن يكونوا في تحالف بات واضحًا بين مجموعة من المسؤولين. ويستعمل هذا التحالف الهجين بعض الشخصيّات المسيحيّة "المستقلّة" في الشكل، لإضعاف الموقع المسيحيّ في ذاتيّته. ويتميّز في هذا الإطار موقف "القوّات اللبنانيّة" عن بقيّة القوى المسيحيّة الأخرى، فهي معنيّة ورئيسها سمير جعجع معنيّ بصورة واضحة بهذا الملفّ، وقد بني تاريخ "القوات اللبنانيّة" على مبدأ الدفاع عن حقوق المسيحيين، وتظهر أوساطها تفهّمًا كبيرًا لوجع العماد عون، وإن اختلفت بالطرائق معه، وهي لن تعارض توجهّه وطريقة التعبير عن وجع مشترك للجميع، ويحذو حذوها "تيار المردة" في التوطيد لتلك المواجهة.

وفي الضفّة الإسلاميّة الأخرى يتميّز موقف "حزب الله" عن بقيّة المواقف الظاهرة، فهو من دون شكّ داعم وجوديّ كبير لموقف "التيار الوطنيّ الحرّ" في هذا المطلب المحقّ. وقد أبدت أوساطه انزعاجها الكبير من الطريقة الفجّة والفظّة، التي يعامل بها العماد عون، من الخصوم وبعض الحلفاء بازدراء كبير. وتؤكّد الأوساط عينها، بأن الحزب متفق مع عون بعدم إسقاط الحكومة في الشارع في ظلّ تفاعل الأحداث في إطار الإقليم الملتهب، فبقاء الحكومة وإن هشّة ومعطوبة في الشكل والمضمون أفضل بكثير من الوقوع في فراغ مطلق وعميم في بلد ممزّقة أوصاله. ويتوافق الحزب مع معظم المكوّنات اللبنانيّة، بأنّ بقاء الحكومة وإن معطوبة عامل استقرار مطلوب ومتفق عليه بين الأطراف اللاعبة في المنطقة وإن ظهر مجوّفًا. ولا يخفي الحزب تأييده لمطالب العماد عون المحقّة، في ظلّ علاقة عبّر عنها الطرفان بأنّها كيانيّة ووجوديّة في إطار وحدانيّة الجسد. هذا التأييد ظهر في مجلس الوزراء كما ظهر في الوقت عينه إعلاميًّا وسياسيًّا بالتأييد المطلق لترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة.

يتّضح من كلّ هذا المشهد أنّ لبنان في أزمة كيانيّة بل تكوينيّة بعد اختلال الميثاق الوطنيّ باختلال ثقافة المشاركة بمعناها الديمقراطيّ الكامل. فالمشهد في حقيقته غير محصور بفلسفة التعيينات، بل يما تحتويه تلك الفلسفة من أبعاد ورؤى تخشى من استعادة المسيحيين لمواقعهم فتعبّر الاستعادة ببعدها الجوهريّ عن استعادة قوتهم كمكوّن جوهريّ وتاريخيّ للبنان. لقد انقضّ المسلمون وبخاصّة السنّة منهم مع الدروز منذ بدء الحرب اللبنانيّة على منطق المارونيّة السياسيّة ودامت عمليّة الانقضاض أكثر من ثلاثين سنة، وأدخل المسيحيون في لبنان في أتون حروب بنيويّة مزّقتهم يقينًا من المخططين بأنّهم إذا تمزّقوا فسيتمّ الانقضاض على تلك الفلسفة التي اعتبرت آنذاك طاغية، وولد منطق رئيس الحكومة السابق الراحل صائب سلام القائل بأن لبنان "لا غالب فيه ولا مغلوب"، ليأتي اتفاق الطائف ويشرّع نهاية المارونيّة السياسيّة في لبنان، ولكنّه كان الرحم الذي منه أينعت السنيّة السياسيّة كبديل فاعل ومهيمن عن المارونيّة السياسيّة.

ليست الحرب الحاليّة على ميشال عون لإلغائه وإضعافه، ولن يستفيد منها أحد على الإطلاق مسيحيًّا بل على العكس سيبدو الجميع فيها ضعفاء هزيلين ومرذولين. إنها حرب في المطلق على الوجود المسيحيّ في لبنان، تبتغي سلخهم عن أرضهم بعد تهجيرهم من مواقعهم وإبعادهم عن دورهم. هناك حلف واضح تقوده بعض القوى في الداخل والخارج. لكن، حذار! يقول احد المسؤولين السياسيين. لم تعد المسألة محصورة في الإطار التوظيفيّ بل أمست كيانيّة. ويذكّر بأنّ لبنان المسلم لا يستقرّ من دون لبنان المسيحيّ، فإذا كانت مشيئة بعضهم أن يكون المسيحيون ضعفاء فإنّ مشيئة معظم المسيحيين أن يكونوا أقوياء في وطنهم ومواقعهم. إنّها حرب متجدّدة على المسيحيين في لبنان وليست على العماد عون حصرًا. ويؤكّد هذا المسؤول، بأنّ ثائرة بعضهم قد انفجرت لأنّ المسيحيين للمرّة الأولى قد تلاقوا في تحديد الخطر الوجوديّ، وتلاقيهم سيعزّز موقعهم من لبنان إلى المشرق العربيّ، وهذا ما يخيف الآخرين.