أن يتحدّث وزير العمل الكتائبي سجعان قزّي عن "المناطق المسيحيّة" ليس بالأمر الخارج على المألوف، وأن يتحدّث رئيس مؤسّسة "​لابورا​" الأب طوني خضره عن "الإجحاف الذي يطال المسيحيّين بصورة فاضحة في وظائف الدولة" ليس بالأمر المُستغرب. أمّا أن يصدر كلام مُشابه على لسان الوزير السابق ​سليم جريصاتي​ في ختام إجتماع "تكتّل التغيير والإصلاح" منذ بضعة أيّام، ومن جملة ما قاله "الكل يعرف أنّ مناطقنا تشكو من حصار مالي وإنمائي(...) وهذا أمر يمسّ الميثاق ومقدّمة الدستور، ولن نرضى به"، فهذا يُمثّل تطوّراً مُهمًّا لم يأت من باب الصدفة. فما هي الأسباب، وماذا سينجم عن كل هذا الجدل القائم حاليًا؟

بالنسبة إلى الأسباب فهي مُتعدّدة، وهي تعود بجذورها إلى نهاية الحرب اللبنانيّة، عندما دفع المسيحيّون في حينه الثمن الأعلى، بفعل الإنقسامات والتقاتل الداخلي وإنقلاب موازين القوى لغير صالحهم. وإذا كان الخلل الطائفي الكبير على مستوى عناصر وجنود الجيش اللبناني الذي أعيد تشكيله وتوحيده بعد الحرب، يُمكن أن يكون مُبرّرًا حيث أنّه يُعزى إلى قلّة عدد المُنتسبين من الطائفة المسيحيّة في مقابل كثرة أعداد المُنتسبين من الطائفة الإسلاميّة، فإنّ الخلل الطائفي على مُستوى إدارات الدولة ليس مقبولاً ولا مُبرّرًا على الإطلاق. ومن المعروف أنّه منذ إنتهاء الحرب مطلع التسعينات تراجع عدد الموظّفين المُثبتين في مؤسّسات الدولة إلى نحو الثلث، لصالح تقدّم صيغ عمل أخرى مختلفة، لا سيّما عبر التعاقد القابل للتجديد. وبفعل ضعف نُفوذ القوى والشخصيّات والأحزاب المسيحيّة في الفترة المُمتدة بين العام 1990 و2005، جرى ضم مجموعات كبيرة من المُواطنين إلى دوائر الدولة بصيغ أقلّ ما يُقال فيها إنّها فوضويّة، من دون أيّ مراعاة لمبدأ 6 و6 مكرّر، الأمر الذي حوّل المسيحيّين العاملين في الدولة اللبنانية إلى أقليّة. وعلى الرغم من غياب الأرقام الدقيقة بسبب كثرة الأساليب التي إعتمدت للتوظيف من خارج مباريات مجلس الخدمة المدنية ومن خارج التثبيت الرسمي في الملاك، فإنّ الإحصاءات والتقديرات تُجمع على أنّ عدد العاملين المسيحيّين في وظائف الدولة الرسميّة يبلغون حاليًا نحو الثلث فقط. وبحسب الأرقام التي بحوزة مؤسّسة "لابورا"، فإنّه في مقابل هذا الخلل الطائفي على مستوى إدارات الدولة، فإنّ المناطق ذات الأغلبيّة السُكّانية المسيحيّة تدفع ما قيمته نحو ثلثي عائدات الضرائب للدولة اللبنانيّة!

وإنطلاقًا من هذه الوقائع، أجمعت العديد من القيادات المسيحيّة الرئيسة، مدعومة بثقل الكنيسة والهيئات الدينيّة المعنيّة في الطائفة المسيحيّة، على أنّ القبول بهذا الواقع لم يعد مُمكنًا، وأنّ الأوان قد حان لإتخاذ القرار بالعودة إلى الدولة من دون منّة من أحد، وبوقف كل أشكال الإضطهاد والتمييز على أساس طائفي أو مذهبي. والعمل سيتمّ في المُستقبل، بالتكافل والتضامن بين كل من الكنيسة والمرجعيات الدينيّة المسيحيّة من جهة، والأحزاب والقوى السياسيّة المسيحيّة من جهة أخرى، على مُراقبة كل التوظيفات التي ستحصل من الآن فصاعدًا، وعلى مُتابعة الحُضور المسيحي في مؤسّسات الدولة، من أصغر موظّف صُعودًا، لمنع حُصول أيّ غبن من أيّ نوع كان في المُستقبل. وبالتوازي، ستبقى المُطالبة قائمة بتصحيح الخلل السابق الذي حصل على نطاق واسع خلال عهد الاحتلال السوري للبنان. وهذه "الصحوة المسيحيّة"، إذا جاز التعبير، لن تقتصر على حقوق الوظيفة العامة، بل ستشمل كل إدارات ومناصب الدولة، وُصولاً إلى الإنتخابات النيابيّة، حيث لن يكون مقبولاً بعد اليوم عدم صياغة وإقرار قانون إنتخابي جديد يُعطي لصوت الناخب المسيحي نفس قيمة صوت الناخب المُسلم في مختلف الدوائر على الأراضي اللبنانيّة.

وبالنسبة إلى التداعيات فهي ستكون متعدّدة، وفي طليعتها خلافات سياسيّة وتراشق إعلامي مع أطراف عديدة إعتادت على فرض سيطرتها على وزارات ودوائر عدّة في الدولة من دون حسيب أو رقيب، بحكم الأمر الواقع الذي كان سائدًا، وبفعل الإستقواء بالطائفة والمذهب وبالإنتماء الحزبي. واليوم، حان وقت أن يقوم المسيحيّون بالمثل، بهدف إستعادة التوازن المفقود، على أمل الوصول يومًا ما إلى حلم الدولة العلمانية، دولة القانون والمؤسّسات حيث كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات.