اشتعال الحرب مجدّداً في حلب بشكل مفاجئ لا يدلّ على انهيار تدريجي للهدنة بالمعنى العسكري الذي تطلّب فعلاً وردّ فعل عنيف بالشكل الذي أقدمت عليه القوى الإرهابية المسلّحة المتمثلة بداعش والنصرة، وبشكل خاص الأخيرة التي تتخذ من شمال سورية معقلاً أساسياً لها، بل يدلّ على أنه انهيار مفتعل للهدنة بالتوازي مع حدث سياسي ما يتعلق بحسابات أو اقتراب تصفية ما يمكن اعتباره نقاط حسم وفصل بالأزمة السورية، هذا ما يحصل في حلب التي تشكل عمق الأزمة وأكثرها قدرة على كشف هوية المفاوضين الحقيقيين والمعرقلين الحقيقيين لجنيف بأوله وثانيه وثالثه وآخره..

يلفت في هذه المعركة المستجدة أنها تأتي عقب التقليص الروسي العسكري في سورية، بالتالي فإنها تطرح علامات استفهام حول منطق أن يكون هذا الوجود قد نفّذ ما من شأنه حماية النظام السوري وتقليص قدرات المسلحين من جهة، ومن جهة أخرى يُطرح سؤال حول سلامة الخطة الروسية بالانسحاب بالتزامن مع إعلان تهدئة حتى تكاد خطوة موسكو تشكل زخماً أعاد التفكير بالتموضع وضخّ الحياة مجدّداً لمشروع النصرة وداعش في الشمال. بالتالي فإنّ المنطق الروسي خاطئ وشكل سقطة موصوفة.

عملياً لم تكن الدماء التي تسيل في حلب بشكل كثيف نتيجة ثغرة أو سقطة حسابات روسية، بل إنّ هذه الدماء تؤكد أنها وليدة ضغط جدّي تعيشه القوى المتقاتلة استتبع تحركاً دولياً واستنفاراً أممياً رغبة بوضع حدّ لما يدور في حلب على الرغم من أنّ كلّ الأجواء كانت تشير إلى سلامة المنطق الروسي في فسح المجال نحو العمل السياسي الذي من شأنه أن يفتح الطريق أمام السلام.

الحرب في حلب هي حرب روسية تركية وليست تحركاً كثيفاً لقوى إرهابية استعصى العمل على كبح جماحها، وروسيا التي تدرك معنى هذا الأمر، تؤكد على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف أنه سيتمّ إعلان الهدنة في حلب خلال الساعات المقبلة، وأنه سيتمّ إنشاء مركز أميركي – روسي لمراقبة وقف إطلاق النار في سورية. تأكيد من شأنه أن يطرح تساؤلات عن جدوى هذا التفاؤل وعن حقيقة القدرة على السيطرة على تلك المجموعات والدور الروسي في هذا الإطار.

يلفت تزامن العمليات العسكرية في حلب مع تصعيد للتوتر الأمني داخل تركيا بين هجمات تتهم السلطات حزب العمال الكردستاني فيها وبين توتر سياسي شديد مع الأكراد، إضافة إلى تفجيرات متنقلة تشرح الدور التركي في هذه الحلقة تحديداً، وهنا يتضح الخلاف الروسي – التركي العميق والمتصاعد وهو الكفيل بإعادة الأمور إلى منطق اللاعودة إذا ما استعصى التوافق بينهما قبل الجلوس على طاولة المفاوضات. وإذا كان الخلاف مطروحاً ميدانياً على شكل شرعنة جبهة النصرة وإدخالها منطق التسويات دون داعش، فإنّ المعادلة اليوم تبدو حسب الأثمان المدفوعة بين الجانبين تتمثل في النصرة مقابل الأكراد او الاثنين معاً أولاً حلّ بالمدى المنظور، وهنا يستذكر جولة جنيف السابقة التي كادت تتوصّل لاعتراف بأحقية الدولة الكردية وإن كان في ذلك الكثير من المناورة روسياً.

القلق التركي الشديد استدعى تحريك أقوى الأوراق التركية انسجاماً مع قلق سعودي من خوض غمار المفاوضات مع الحوثيين أقلّ ما يُقال فيها هزيمة أمام منطق إلغاء لم تتوصل إليه المملكة بعد حرب ضروس وهنا مجازر حقيقية تقع بحق المدنيين بصواريخ لجبهة النصرة التي يسعى محرّكوها لإظهارها القوة الضاربة في حلب في منطق يشبه ما كانت تسعى إليه «إسرائيل» من حشد واستنفار دولي يأخذها نحو منطق القرارات الدولية فتحرّك الآلة العسكرية وتجبر تحت ضغط دولي على إيقاف العملية العسكرية. هكذا تتوسّل تركيا مع السعودية للجلوس على طاولة حلّ مع الروس.

تبدو موسكو غير مقتنعة بجدوى المحادثات حتى الساعة بالنمط التركي المشهود وتصرّ على إرسال رسائل تصعيدية لا تظهر ليونة روسية أو خضوعاً للرغبة التركية السعودية كعامل مفاوض قبل الجلوس على الطاولة رسمياً بتقديم الضغط. وهنا يجدّد مسؤولون أمنيون روس اليوم مطالبتهم إغلاق المعابر الحدودية بين تركيا وسورية لما من شأنها من تسهيل مرور المسلحين يضاف اليهم كلام صريح للافروف في هذا الإطار عن دخول الإرهابيين من سورية وإليها عبر تركيا ما يكشف عمق الخلاف معها، ويؤكد أنّ أيّ تقدّم يعتمد على ضرورة التوصل إلى تعاون روسي تركي يجعل من الخطوة السعودية منفردة عبثية لا حدود لها.

لا تريد موسكو الوقوف عند الضغوط التركية، لكن الدعوة للعودة الى الهدنة بالشكل الذي جاء يشي باطمئنان روسي أميركي على إمكانية السيطرة على الهدنة الممزقة بعد أمل روسي واضح بإمكانية عقد اتفاق هدنة مجدّداً في الساعات القليلة المقبلة، وهنا تبدو دماء الحلبيين والسوريين استطراداً، رهن مخاض يدخل الازمة السورية برمّتها في منطق المفاوضات الأكثر وضوحاً، بعد أن يكون ملفا الأكراد والنصرة قد سلك طريق الترتيب الأنسب، وبعد أن فرض التصعيد التركي – السعودي رغبة دولية بإجبار الطرفين على التوقف عن القصف الذي لا يمكن أن يتحمّل الأتراك الاستمرار فيه من دون انكشاف دور أنقرة المباشر لفترة أطول، وبالتالي النزول عن السقف الذي لن تقدّم روسيا على أساسه تنازلات، وهنا تتكشّف رغبة أميركية بعد سوء العلاقة المستجدّة مع الرياض في مراعاة حلول وسط مع تركيا تمنحها ضمانات بالملفات الأكثر قلقاً مثل «الأكراد» متخطية مسايرة الوضع السعودي الذي لا يبدو محبّذاً أميركياً.