تحوّلت الترشيحات لمنصب رئاسة الجمهورية في لبنان إلى بُورصة سياسيّة، ترتفع فيها أسهم كلّ مُرشّح من المُرشّحين الكُثر المُعلنين وغير المُعلنين في مرحلة من المراحل، قبل أن تعود لتهبط في مرحلة أخرى. وجديد بورصة الرئاسة بحسب الإعلام اللبناني، إرتفاع أسهم رئيس "تكتّل التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون مُجدّدًا، على حساب تراجع أسهم رئيس "تيّار المردة" النائب سليمان فرنجيّة. لكنّ هذا الأمر لا يستند إلى مُعطيات حسّية ولا إلى تحوّلات ملموسة، بل هو مُبني على قراءات بين السُطور وعلى تحليلات سياسيّة، وكذلك على إجتهادات شخصيّة في بعض الأحيان في إطار التنافس الإعلامي-السياسي الحاد القائم بين المُرشّحين وداعمي كلّ منهم. فالوقائع الفعليّة تؤكّد التالي:

أوّلاً: إنّ بناء أجواء التفاؤل على الفشل في إيصال النائب فرنجيّة إلى قصر بعبدا، يُقابله فشل مُماثل في إيصال النائب عون للرئاسة ولفترة زمنيّة أطول، والحديث عن تغييرات إقليميّة ودَوليّة هي معزوفة تُطلّ بين فترة وأخرى، وتُضاف إلى عشرات المواعيد التي أعطيت في السابق من دون تحقيق أيّ نتيجة.

ثانيًا: إنّ بناء أجواء التفاؤل على كلام وزير الداخليّة ​نهاد المشنوق​ من أنّ إختيار فرنجيّة كمرشّح تمّ عبر تدخّل بريطاني–أميركي–سعودي، وتفسير ذلك بأنّه تمهيد لإعلان سحب تأييد "تيار المُستقبل" لترشيح رئيس "تيّار المردة"، يُقابله تفسير آخر للكلام نفسه، بأنّه مُحاولة لتبرير هذا الخيار أمام قواعد "التيار الأزرق" بعد تسجيل تململ واسع في صفوفها إزاءه، من دون أيّ خلفيّات سياسيّة أخرى. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كلام رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ الأخير بأنّه لن يقف حجر عثرة أمام وصول "الجنرال" إلى الرئاسة في حال إتفاق الزعماء المسيحيّين على ذلك، حيث أنّ هذا الكلام ليّن في الظاهر لكنّه لا يُمثّل تغييرًا في الجوهر، باعتبار أنّه في حال توافق كل الزعماء المسيحيّين على ترشيح العماد عون لا يعود لأصوات نوّاب "جبهة النضال الوطني" أيّ أهمّية تُذكر في المعركة الرئاسيّة.

ثالثًا: إنّ قيام رئيس "تيّار المُستقبل" بسحب ترشيح النائب فرنجية والإنتقال إلى خيار ترشيح العماد عون، لن يتم من موقع العجز عن إيصال الزعيم الزغرتاوي إلى منصب الرئاسة، والرضوخ لشروط العماد عون و"حزب الله" من خلفه، وإنّما ضمن صفقة شاملة تحفظ للتيار الأزرق نفوذه ولرئيسه موقعه.

رابعًا: إنّ المُشكلة الكبرى هي في قانون الإنتخابات النيابية وليس في إسم الرئيس، وهذه المسألة هي أهمّ عقبة جديدة أمام حلّ موضوع الشغور الرئاسي المُستمرّ منذ أكثر من سنتين. وبما أنّ التعثّر هو سيّد الموقف في ملف قانون الإنتخابات، والإتجاه يميل أكثر فأكثر إلى فرض "قانون الستّين المعدّل" كأمر واقع لإنتخابات نهاية ربيع العام 2017، فإنّ لا شيء يُوحي بأنّ "الجنرال" سيُوافق على مُقايضة الرئاسة بقانون الستّين، بل العكس صحيح حيث أنّ الأجواء المُسرّبة تتحدّث عن تصعيد سياسي وشعبي كبير سينُفّذه "التيار الوطني الحُر" في الأشهر القليلة المقبلة في حال إستمرار سياسة التسويف والمُماطلة في الوصول إلى قانون جديد.

خامسًا: إنّ أيّ مُوافقة من قبل "تيّار المُستقبل" على إنتخاب العماد عون رئيسًا لن تكون على حساب قيام النائب الحريري بإلغاء نفسه، خاصة وأنّ التطوّرات السلبيّة التي هزّت "تيار المُستقبل" في الأشهر القليلة الماضية، على مُستوى كل من القيادات فيه وشعبيته ووضعه المالي، تستوجب عودة النائب الحريري إلى منصب رئاسة الحكومة، لإعادة إمساك زمام الأمور. والطريق أمام هذه العودة ليست مُسهّلة وفق المُعطيات الحالية.

سادسًا: إضافة إلى تعقيدات مسألة طبيعة قانون الإنتخابات النيابيّة، ومسألة هويّة رئيس الحكومة، إزداد ملفّ رئاسة الجمهوريّة إرتباطًا بمسألة طبيعة الحكومة المُقبلة، وشخصيّاتها، علمًا أنّه بات على "تيّار المُستقبل" ليس أن يحمي حصّته الوازنة في الحكومة الحالية فحسب، وإنّما مُساندة النائب فرنجيّة أيضًا الذي وقف إلى جانبه بوجه "الجنرال". وبات على "التيار الوطني الحُرّ" أن لا يتجاهل وقوف رئيس حزب "القوّات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​ إلى جانبه بوجه "التيار الأزرق" في أيّ توزيع وزاري، علمًا أنّ "القوات" غائبة عن الحكومة الحالية، وقد جرى منح حصّتها إلى حزب "الكتائب اللبنانيّة". كما أنّ العماد عون يُخطّط للتعويض على قائد فوج المغاوير السابق العميد المُتقاعد ​شامل روكز​ بطرح إسمه كوزير للدفاع في أوّل حكومة جديدة. وكل ما سبق يعني شبكة لا تنتهي من التعقيدات ومن تضارب المصالح عند تشكيل أي حكومة جديدة.

سابعًا: ومن بين المشاكل الجديدة أمام ترشيح العماد عون، مسألة العقوبات الأميركيّة المُتصاعدة على "حزب الله"، ومحاولات تضييق الخناق ماليًا على هذا الأخير، الأمر الذي سيُسبّب إحراجًا كبيرًا في تعاطي "الجنرال" مع حليفه الداخلي الوفيّ من جهة، ومع الدبلوماسيّة الأميركيّة التي لا يمرّ إستحقاق لبناني مهمّ من دون أن تكون لها كلمة فيه، أكان بشكل ظاهر أو مُستتر.

ثامنًا: إضافة إلى المشاكل والتعقيدات الداخليّة، لا تزال الغيوم السوداء ملبّدة فوق أجواء المنطقة، حيث يُتوقّع أن تتجه الأوضاع العسكريّة في سوريا إلى مزيد من التصعيد الميداني في الأسابيع القليلة المُقبلة، في ظلّ شدّ الحبال المُتواصل بين القوى الإقليميّة المُتصارعة، وفي طليعتها تركيا والسعودية وإيران وسوريا، إلخ.

تاسعًا: إنّ الواقع الجغرافي للبنان، وإمتدادات الإنقسام المذهبي فيه، وطبيعة الصراع الداخلي بامتداداته الخارجيّة، تُساهم في ربط ملفّاته الداخليّة الأساسيّة، مثل إنتخابات الرئاسة وتوزيع الحكم ككل، باستحقاقات خارجيّة مختلفة، الأمر الذي يجعل فترة الأشهر المقبلة الفاصلة عن موعد الإنتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في الثامن من تشرين الثاني المقبل، فترة تمرير للوقت المُستقطع، في إنتظار إستلام الإدارة الجديدة.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ مسألة إنجاز الإستحقاق الرئاسي مُرتبط بمعطيات متحرّكة، وهي قد تتطوّر إيجابًا في فترة زمنيّة قصيرة. لكنّ وبحسب المُعطيات السائدة اليوم، لا جديد مهمّ في هذا الملفّ الذي يزداد صعوبة وتعقيدًا بسبب ربطه بملفّات أخرى، مثل قانون الإنتخابات المقبل وحكومة العهد الجديد، كما سبق وأشرنا، ما يعني أنّ فترة المُراوحة مُرشّحة لأن تطول.