لم يستغرق الأمر سوى دقائق معدودة بعد انفجار ​فردان​، حتى "دوّت" أصوات "المحللين–المحققين" لتفوق "دويّ" الانفجار نفسه، إذ كان يكفي أن يأتي في غمرة الصراع بين "حزب الله" وبعض ​المصارف اللبنانية​، ليُعتبَر مباشرةً ومن دون عناء أيّ تحقيق "رسالة" من الحزب، "منطقٌ" قوبل بـ"منطقٍ" آخر قوامه أنّ الأخير ليس بهذا "الغباء"، وأنّ هناك من أراد "توريطه" عن سابق تصوّرٍ وتصميم.

لكن، وبعيداً عن الاتّهامات الجاهزة غبّ الطلب، ثمّة من خرج ليقول من دون تردّد أنّ الانفجار هو بخطورة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، قولٌ كان النائب السابق ​فارس سعيد​ أول "عرّابيه"، ليتبنّاه رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ على ذمّة بعض المصادر، على الرغم من "تناقض" قراءتي الرجلين للانفجار.

هل تجوز المقارنة؟

برأي النائب وليد جنبلاط، "حزب الله" هو المتضرّر من انفجار فردان، قولٌ لا يؤيّده فيه النائب السابق فارس سعيد الذي اعتبر الانفجار رسالة إلى المصارف في مواجهة قانون العقوبات الأميركي. ومع ذلك، التقى الرجلان على "تضخيم" الحدث، بتشبيهه بـ"زلزال" اغتيال رفيق الحريري، الذي أحدث ما أحدثه في البلد. فهل تجوز فعلاً المقارنة بهذا الشكل؟

من حيث الشكل أولاً، لا تبدو مثل هذه المقارنة واقعيّة، فانفجار فردان لا يشبه غيره من الانفجارات، حتى أنه لا يتقاطع مع التسريبات الأمنية التي سبقته، وحذرت من فوضى أمنية مقبلة، بشهادة المعني الأول وزير الداخلية نهاد المشنوق، وهو بطبيعة الحال لا يشبه اغتيال الحريري من قريب ولا من بعيد. فانفجار فردان لم يكن اغتيالاً سياسياً، ولم يكن الهدف منه إيقاع خسائر في الأرواح، لا بطريقةٍ مباشرة ولا غير مباشرة، وما اختيار توقيته تزامناً مع الإفطار وخلوّ الشوارع من الناس سوى الدليل الأكبر على ذلك.

ومن حيث الدلالات أيضاً، لا تبدو المقارنة أيضاً في مكانها الصحيح، حتى وفق منطق من سارعوا لتوجيه أصابع الاتهام لـ"حزب الله"، إذ اعتبروا التفجير "رسالة" لا أكثر ولا أقلّ، علمًا أنّ هؤلاء يتّهمونه أصلاً بالوقوف وراء اغتيال الحريري، مع تسجيل مفارقة لافتة لجهة اعتبارهم أنّ الحرص على عدم إيقاع قتلى يصبّ في خانة تعزيز فرضية وقوف الحزب وراء العمل، ما يدلّ على ازدواجيةٍ في النظر إليه في مكانٍ ما، إذ كيف يكون متّهماً بأكثر الجرائم الدموية تارةً، ويكون حرصه على عدم إراقة الدماء دليلاً على تورّطه تارةً أخرى؟

وعلى الرغم من تباين القراءات حول لائحة المتضرّرين، إلا أنّها تتلاقى على أنّها مختلفة في الحالتين، علمًا أنّ القطاع المصرفي بشكلٍ عام و"حزب الله" يتصدّران القائمة في تفجير فردان، أياً كان الفاعل، إذ لا يمكن لأحد أن يتوهّم أنّ تفجيراً معيّناً يمكن أن يثني مصرفاً ما عن تطبيق قانونٍ ما، خصوصًا إذا كان من أشدّ المتحمّسين له، كما لا يمكن الاعتقاد أنّ هناك مصلحة لـ"حزب الله" من وراء هذا العمل، وهو إن أراد الضغط على القطاع المصرفي لاستطاع فعل ذلك يقيناً بوسائل أخرى أكثر تأثيراً وإيلاماً، وقد تمّ التلويح بها.

فتّش عن الفتنة...

من حيث الشكل كما الدلالات إذاً، لا يبدو تفجير فردان شبيهاً باغتيال الحريري، فهو ليس عملية اغتيال، ولا الهدف منه قتل المواطنين، كما بات واضحاً.

رغم كلّ ذلك، يمكن التقاط "عامل مشترك" بين الحدثين، ألا وهو "رياح الفتنة" التي لا تحتاج للكثير من العناء لرصدها. هي كانت حاضرة في اغتيال الحريري بلا شكّ، من حيث التوقيت والأهداف، أياً كان الفاعل، كيف لا وقد وُصف الاغتيال يومها بـ"الزلزال"، وثبُت أنّ ما بعده لم يكن كما قبله بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصًا بعد موجة "الاتهامات" التي خرج أصحابها في وقتٍ لاحقٍ ليصنّفوها بـ"السياسية". ويذكر الجميع كيف أنّ هذه الجريمة التي هزّت لبنان بأسره أحدثت انقلاباً في الخارطة السياسية الداخلية كما الخارجية، وأطلقت فريقي الثامن والرابع عشر من آذار اللذين يلفظان اليوم أنفاسهما الأخيرة.

رياح "الفتنة" هذه تبدو حاضرة في تفجير فردان أيضاً وأيضاً من حيث "التوظيف السياسي" الذي كان "أسرع من البرق"، بمجرّد الإيحاء بأنّ هناك من "ينتقم" بالدم على قوانين يعتبرها ظالمة وجائرة، وبمجرد "استجلاب" تعليقات لصحافيين ومحللين يدورون في فلكٍ معيّن للحديث عن "حملة منظّمة" استبقت الجريمة ومهّدت الطريق لها، وهو أمرٌ لا يمكن أن يكون بريئاً ولا عفوياً، بل لعلّه جزء من "عدّة الجريمة"، التي أريد لها أن تكون "مفضوحة" بشكلٍ أو بآخر.

وفي حين تبقى الخشية الأكبر أن تكون جريمة فردان حلقة أولى من سلسلةٍ، خصوصًا إذا لم تؤدّ الغايات الفتنوية المنشودة منها، فإنّ التشبيه الأكثر واقعية هنا قد يكون بين تفجير فردان، وسلسلة التفجيرات المتنقّلة التي كانت تحصل في بعض الأماكن في بيروت، وبالتزامن مع بعض الاستحقاقات المرتبطة بالمحكمة الدولية وعشية صدور تقاريرها، والتي لم يكن من أهدافها إيقاع العدد الأكبر من الخسائر في الأرواح، بقدر ما كان بثّ الرعب والخوف، والرمي باللائمة على فريقٍ محدّد، في "سيناريو" يبدو أنّ تفجير فردان نسخه بحرفيّته.

حذار الانزلاق!

صحيح أنّ الوقائع الملموسة لا تميل لصالح المقارنة بين تفجير فردان واغتيال رفيق الحريري، لا من حيث الشكل والحجم ولا المضمون والدلالات، ولكنّ الأكيد أنّ كلّ عملٍ إرهابي لا يمكن إلا أن يكون مشبوهاً ومنبوذاً، أياً يكن حجمه على الأرض.

ولأنّ الفتنة، إذا ما وقعت، تفوق بتداعياتها كلّ الجرائم والزلازل والبراكين، يبقى وعي اللبنانيين هو الأساس، وهو الحائل الأول والأخير دون تحقيق غايات المنفّذين، ولو انزلق بعض السياسيين ووقعوا في الفخّ، كما أظهرت الدقائق الأولى ما بعد تفجير فردان للأسف الشديد...