مهما حاولنا أن نبين مدى شأن الصوم ورتبته العالية بين سائر العبادات والقربات نبقى عاجزين عن إدراك جميع التفاصيل والأحكام والمفاهيم التي اشتملت عليها هذه الفريضة المميزة التي لم يختلف على إيجابها أحد من الناس في شرق الأرض وغربها، وربما كان سكان الغابات يستعملون الصوم تقرباً منهم للآلهة التي يعظمونها أو يعبدونها من دون الله تبارك وتعالى.

ومن خلال الإستقراء حول هذه الفريضة وتتبع آثارها لدى الأمم والشعوب أمكن لنا القول بأن الإعتقاد في وجوبها بات يكون أمراً فطرياً لأن كل سكان الأرض يشعرون بضرورة الصيام رغم اختلافهم في عملية أدائها.

ولأجل ذلك اعتبر الصيام من أكثر العبادات شهرة وانتشاراً بين أفراد المجتمع البشري الذين أولوا اهتماماً واسعاً لها دون سواها ولذلك نجد كثيراً من الناس يضعفون أمام هذه العبادة فيؤدونها في حين أنهم يقصرون تجاه العبادات الأخرى.

ولعل السبب في هذا الإنتشار الواسع هو أن الصوم من أقدم العبادات التي التزم بها الناس، ونقصد بالقديمة أنها كانت منتشرة قبل ظهور الإسلام بآلاف السنين كما ينص ​القرآن الكريم​ والتاريخ الصحيح.

وبناء على ما ذكرنا يظهر معنا أن جميع الخلائق يعدون الصوم أساساً من أسس معتقداتهم وعبادة مميزة في نظر الجميع.

نأتي إلى هذا الزمان لنرى كيف ينظر الناس إلى هذه الفريضة فإن نظراتهم لها تختلف بين وشخص وآخر، ويعود سبب الإختلاف إلى مدى فهم كل فرد لحقيقة هذه الفريضة التي شرّفنا الله بها ونظر إلينا نظرة رحيمة عندما فرضها علينا.

لقد قلنا بأن هذه العبادة مميزة بمدى انتشارها واهتمام الناس بها، ولكننا نسأل أنفسنا: ما هو المنتشر بيننا من هذه الفريضة؟ هل هو كلها؟ أو المنتشر بيننا هو جزء منها؟

وبعد مراقبة دقيقة لهذا الموضوع وجدنا أن الأكثر انتشاراً بين الناس هو الصوم المادي الظاهري الذي يتحقق بالإمتناع عن المفطرات المعلومة من دون ملاحظة مدى التوجه نحو الله عز وجل.

أما الصوم الجامع لأسمى معانيه وأعمق أبعاده فإنه قليل التداول وبطيء الإنتشار وذلك بسبب الفهم الخاطئ لمعاني وأهداف هذه العبادة التي اختصها الله لنفسه من بين سائر العبادات.

نحن نسعى من خلال هذه البحوث إلى معرفة الحقائق والآثار المتعلقة بهذا الواجب ولا يمكن لنا الوصول إلى هذا المطلوب إلا من خلال البحث الدقيق والموسع فإننا من دون تأمل في متعلقات هذه الفريضة لا يمكن لنا أن ندرك شيئاً واضحاً حولها. فهناك أساليب معينة يجب اتباعها، ومقدمات يجب أن نوفرها لهذا البحث حتى نخلص بالنتائج المطلوبة.

أول ما ينبغي الكلام حوله في هذا المقام هو تقسيم الصوم إلى قسمين أو تنويعه إلى نوعين، وهذا التنويع يفيد كثيراً في مسألة فهم المراد وإدراك المطلوب.

النوع الأول: الصَّوْمُ المَادِّي

يمكن لنا أن نعبِّر عنه بالصوم الظاهري أو الصوم الشكلي الذي يتحقق بترك المطلوب في تحقق هذا النوع كالأكل والشرب والجماع.

وهنا يوجد لفتة مهمة ندرأ بها إشكالاً قد يطرحه البعض علينا حول التعبير عن هذا الصوم بالصوم المادي لأنه يوجد من بين المفطرات ما لا علاقة له بالمادة كقطع النية أو الكذب على الله ورسوله، ولأجل ذلك أوضحنا هذا النوع بأنه يمكن أن نسميه باسم آخر، يمكن أن نطلق عليه إسم الصوم الظاهري أو الصوم الشكلي، وهو ما نعبر عنه أيضاً بصوم البطن عن الطعام وهو لا يكفي لتأدية المطلوب منا كعباد لله عز وجل، نحن كعبيد لله يجب علينا أن نؤدي المطلوب على أكمل وجه وأتم صورة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال الفهم العميق للصوم والتزامه على هذا النحو.

النوع الثاني: الصَّوْمُ المَعْنَويّ

وهو أشمل نطاقاً وأوسع دائرة من النوع الأول لأنه يشتمل على الأول وزيادة لأن الأول جزء من هذا النوع الذي لا يتحقق إلا بترك المفطرات بالإضافة إلى ترك المحرمات والتوجه الخالص لله تبارك وتعالى، ولأجل ذلك أمكن لنا التعبير عن هذا النوع بالصوم المعنوي لأن الغالب عليه هو صوم النفس أكثر من صوم البطن، وهو الملاحظ في دين الإسلام الذي يدعو أتباعه إلى التحلي بالصوم الباطني وإتمام الفريضة به لأنه إذا اقترن هذان النوعان مع بعضهما لدى العبد فقد أدى ما عليه تجاه هذا الواجب، أما الإكتفاء بأحدهما فلا جدوى منه على الإطلاق لأن المطلوب من العبد أكثر من إسقاط الواجب، إسقاط الواجب مطلوب من الجميع ولكن بضميمة التوجه والتقرب إلى الله تعالى.

والمؤمن الحقيقي لا يقنع من نفسه بالقليل لأنه مهما قدّم من الطاعات والقربات يبقى في نظر نفسه مقصراً فهو يجبر نفسه على الزيادة في العطاء لأنه يدرك بأن مردود هذا العطاء له وليس لله الغني عن طاعاتنا وأعمالنا.

فالصوم له جهتان: جهة عادية تتصل بالنوع الأول، وجهة عليا تتصل بالنوع الثاني ذي المرتبة السامية.

هناك كثير من الصائمين لا يفكرون إلا بالأكل والشرب طيلة النهار وهم ينتظرون وقت الغروب على أحر من الجمر ليتناولوا الطعام والشراب الذي اشتهوه طيلة النهار مع أنهم كانوا قادرين على نسيان الجوع بقراءة القرآن والتأمل في قدرة الله عز وجل.

كل شيء عندهم هو الجوع والعطش والطعام والشراب، وهذا عين الصوم المادي الذي اعتبرناه ناقصاً، وهؤلاء لو كان يعرفون معنى الصوم الحقيقي لما شغلهم الجوع عن واجباتهم واتصالهم مع الله عز وجل.

إن هذا الصنف من الصائمين يمر ​شهر رمضان​ عليهم من دون أن يستغلوا أوقاته بالعبادة وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية والمناجاة فلا يهمهم كيف مر الشهر، المهم عندهم هو مرور الشهر لتحل عنهم تلك القيود، فإذا كنت تمنع نفسك عن الطعام والشراب من أجل الله فإن العبادات التي ذكرناها هي من أجل الله أيضاً، فإذا كان رضا الله يهمك فاعمل على كسب رضاه عن طريق التواصل معه وبالخصوص في أيام شهر رمضان الذي جعله الله أفضل الشهور.

إن ما ذكرناه حول مفهوم الصوم لم يكن استنتاجاً خاصاً أو رأياً شخصياً بل هو ما أكد عليه النبي وآله(ص) في العديد من المواضع والمواقف، وكان الهدف منهم بيان الحقيقة الحقيقية لهذه الفريضة المميزة.