في كل يوم، تظهر أهمية ذهاب قيادة "حزب الله" إلى مراجعة شاملة لتاريخ إنطلاق مواجهتها مع ​الجماعات التكفيرية​ في منطقة الشرق الأوسط، لتقديم رؤية واضحة لها، لا سيما أن هذه الحرب ليست في الميدان العسكري والأمني فقط، بل خطورتها تكمن أيضاً في الجوانب السياسية والإعلامية والإجتماعية، حيث تبرز تداعيات لا يمكن معالجتها في وقت قصير.

قبل أيام، قدم القاضي العام لغرفة عمليات "​جيش الفتح​" ​عبدالله المحيسني​، ما يمكن وصفه بالرؤية "القاعدية" لهذه المواجهة، متحدثاً عن مقاتلي الحزب الّذين غُرر بهم، ومشيراً إلى أن سقوط الضحايا يعود إلى تدخل الحزب في ​الحرب السورية​، متسائلاً: "منذ متى أصبح اللبنانيون بهذه المناظر، كيف كنتم في لبنان آمنين، وكيف استطاع (الأمين العام لحزب الله السيّد) حسن نصر الله بعبارة رنانة دغدغة مشاعركم، وجرّكم إلى محرقة ومستنقع ليس لكم فيه ناقة ولا جمل، سواء كنتم شيعة أو سنة، ما الذي تستفيدون به من قتل أهالي سوريا؟"

بالنسبة إلى المحيسني، كان من الممكن أن يبقى لبنان واللبنانيين بمنأى عما يحصل من حولهم، لو لم يذهب "حزب الله" إلى خيار التدخل في الحرب السورية بصورة مباشرة، وهو الخطاب نفسه الذي تكرره العديد من القوى الإقليمية والمحلية، في حين هي نفسها تراهن على تدخل قوى دولية موجودة على بعد آلاف الكيلومترات للقضاء على الخطر الإرهابي، الذي تعتبر أنه بات يهدد كل دول العالم.

عند هذه النقطة، تتوقف العديد من الأمور، هناك من يقدم خطاباً يدغدغ مشاعر الكثيرين، الرد عليه لا يجب أن يقتصر على مجرد مواقف تطلق على لسان بعض مسؤولي الحزب أو قوى الثامن من آذار، بين الحين والآخر، بل من المفترض أن يكون هناك رؤية شاملة توضح كل الأمور، بالنسبة إلى قسم كبير من الجمهور، لا يزال حتى اليوم يتأثر بخطاب الجماعات المتطرفة، لكن من أين تكون البداية؟

غزو ​العراق​ وظهور الزرقاوي

هناك عاملان أساسيان يساهمان في بروز الجماعات المتطرفة، إلى جانب عوامل أخرى لا يجب التقليل من أهميتها، هما: الفوضى أو إنهيار الدولة والفتنة المذهبية أو الطائفية، حيث أن الأخيرة تساهم في تقديم وقود الحرب على المستوى البشري، في حين أن الأولى تسمح بحرية البناء والحركة وتساعد في إشعال الفتنة أيضاً، نظراً إلى أن العصبية المذهبية ستعود لتكون المحرك الأول على مستوى الأفراد في مرحلة إنهيار مؤسسات الدولة.

من هذا المنطلق، يمكن القول أن المراجعة يجب أن تنطلق من تاريخ غزو العراق، بهدف إسقاط نظام حكم ​صدام حسين​، في العام 2003، حيث ساهم إسقاط مؤسسات الدولة العراقية السابقة في إنتشار المليشيات المسلحة على نحو كبير، في حين كانت هناك فصائل مقاومة تعمل على تنفيذ عمليات مهمة.

في تلك الفترة، برز اسم ​أبو مصعب الزرقاوي​، الإسم الذي يثير حوله العديد من علامات الإستفهام، فالرجل على الرغم من تواجده سابقاً في أفغانستان لم يبايع تنظيم "القاعدة"، وفي بداية عمله في العراق لم يكن قد قدم البيعة، لكن يمكن التأكيد بأنه كان نقطة التحول في بوصلة الجماعات المتطرفة، التي كانت تعلن أن عملياتها تستهدف الولايات المتحدة والقوى المتحالفة معها على المستوى العالمي، في حين كان الزرقاوي، الأب الروحي لتنظيم "داعش" المعروف حالياً، يريد أن توجه نحو إستهداف باقي الفئات في المجتمع، لا سيما المنتمين إلى المذهب الشيعي، إلا أن هذا لا يعني أن باقي المذاهب الإسلامية والمسيحيين خارج دائرة الإستهداف، بل يمكن القول أن عدد الضحايا السنة الذين سقطوا بجرائمه هو الأكبر.

إغتيال الحكيم وموقف "القاعدة"

قبل بروز الزرقاوي، لا يمكن الحديث عن مواجهة مباشرة بين الحزب والجماعات التكفيرية، كما لا يمكن الإشارة إلى توجه "القاعدة" نحو التحول في المعارك باتجاه المجتمعات المحلية، لكن بعد إغتيال الإمام ​باقر الحكيم​ في النجف، في 29 آب من العام 2003، بدأ المخاض الكبير في صفوف الجماعات التكفيرية أولاً، الذي كان يحمل في طياته العديد من المؤشرات التي لم يتنبه لها الكثيرون.

في ذلك الوقت، خرجت "القاعدة" بصورة واضحة لنفي مسؤوليتها عن التفجير الإرهابي، لا بل لم تتردد في القول بأن المساجد يفجرها الأعداء لخدمة مخططاتهم، لكن الزرقاوي، الذي لم يكن قد بايع "القاعدة" بعد، أعلن، في 5 نيسان من العام 2004، مسؤوليته، عبر تنظيم "​التوحيد والجهاد​"، عن إغتيال الحكيم، في مؤشر إلى التعارض في الأهداف والأسلوب.

في تلك المرحلة، كانت "القاعدة" بحاجة إلى إعادة البروز على المسرح العالمي، بعد الضربة القاسية التي وجهت لها في أفغانستان، في حين أن الزرقاوي كان بحاجة إلى دعم "القاعدة"، نظراً إلى ما يقدمه له ذلك على المستوى المالي والبشري، فالتنظيم العالمي له تأثير كبير في حين كان "التوحيد والجهاد" ذو طابع محلي فقط.

في شهر تشرين الأول من العام من العام 2004، جاء الإعلان عن بيعة الزرقاوي لـ"القاعدة"، لكن البيان الرسمي يشير إلى تفهم الأخير رؤية "التوحيد والجهاد" في العراق لا العكس، والزرقاوي شرحها بشكل مفصل في أكثر من مناسبة، لا سيما في شريط "هل اتاك حديث الرافضة" في العام 2006، فهي تضع إيران و"حزب الله" على رأس قائمة الأهداف، لكن ماذا كان موقف الحزب في ذلك الوقت؟

العودة إلى خطاب أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله في تأبين الحكيم، أي إلى العام 2003، تكفي لفهم التوجه بشكل جلي، حيث اعتبر أن الأمل الوحيد لسيطرة أميركا على المنطقة هو ضرب الأمة في مسألة الشيعة والسنة، في وقت كانت فيه أعداد الهجمات التي تحمل طعم الفتنة السنية الشيعية تزداد يوماً بعد آخر.

"حزب الله" والحرب السورية

المقدمة الطويلة لواقع الصراع قبل بداية الحرب السورية، كانت ضرورية للوصول إلى خلاصة مهمة حول قرار المشاركة فيها بعد أن باتت المواجهة على أكثر من جبهة، فهل كان الحزب قادراً على تجاهل ما يجري؟

في بداية هذه الحرب، في العام 2011، عمدت قيادة الحزب إلى إطلاق أكثر من دعوة إلى الحوار، لكن مع مرور الوقت كانت تبرز في المظاهرات شعارات تدعو إلى قتاله بعد إسقاط النظام السوري.

بالإضافة إلى ذلك، كانت بعض التقارير العالمية، لا سيما ذلك الصادر عن "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط"، في نيسان من العام 2011، تتحدث عن توافد الآلاف من المقاتلين إلى سوريا، في حين كشف لاحقاً أن بعض الجماعات التكفيرية كانت تتحضر إلى الإنتقال إلى "بلاد الشام" منذ بداية الأحداث، مع العلم أن معظم المراقبين يضعون ​معركة القصير​، أي العام 2013، تاريخاً ثابتاً لدخول "حزب الله" الحرب بشكل واضح.

في تلك المرحلة، كان على الحزب أخذ القرار الصعب: الدخول في الحرب أو البقاء بعيداً عنها، لكن مسار الأحداث كان يثبت بأنها قادمة لا محالة، في حال نجحت تلك الجماعات في السيطرة على سوريا، ما يعني أن تكلفة المواجهة هناك ستكون أقل، بالرغم من أن التداعيات ظهرت عبر التفجيرات الإرهابية الي وقعت في لبنان، لكن هذا الأمر لا يمكن الإرتكاز إليه، نظراً إلى أن هكذا أعمال وقعت في دول من المفترض أن تكون محصنة بشكل أفضل، مثل فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة.

بناء على ما تقدم، يمكن القول أن الحزب يخوض اليوم مواجهة تصنف ضمن خانة الحرب الدفاعية، بعد أن أعلنت ضده في العام 2006، بالحد الأدنى، وظهرت بشائرها الأولى من أرض العراق في العام 2003، لتصبح الصورة أكثر وضوحاً عن الواقع في حال لم يأخذ الحزب ذلك القرار، حيث كان عليه الإنتظار إلى حين وصول الآلاف من التكفيريين إلى لبنان، وبعدها يتحرك لمواجهتهم.

في المحصلة، قد يكون من الضروري، في خضم الحرب الإعلامية القائمة، لا سيما لناحية توصيف أو تعريف الإرهاب، طرح الكثير من الأسئلة حول حق الدول الكبرى، البعيدة عن سوريا والعراق، في تشكيل التحالفات لمحاربة التطرف، في حين يُمنَع الحزب من القيام بالأمر نفسه رغم إعلان الحرب عليه، لكن كل هذا لا يمنع ضرورة مراجعة الخطاب السياسي في كل مرحلة، لسد الثغرات التي تستفيد منها الجماعات المتطرفة.