لم أجد أروع وأصدق في وصف حال الاتحاد الأوروبي صبيحة ظهور نتائج الاستفتاء الشعبي الذي ألزَم بريطانيا العظمى بالخروج منه، من تحليل ذلك المعلّق الذي لم يتأخّر وعبر شاشة أحد التلفزيونات من القول الصريح إنّ نتائج التصويت تعكس بشكل واضح وساطع فقدان الاتحاد الاوروبي «للروح» التي كانت تجمع أعضاءه، مضيفاً أنّ هذه الروح لا يمكن أن تعود إلّا بتحديث الأفكار عبر فتح الباب لنقاش جدّي يكون المدخل الحقيقي والوحيد الى ديموقراطية منتجة تبعد منه زمن الشيخوخة وروح التفسّخ...

ولعلّ أهمية هذا التحليل أنّه لم يختصر فقط بجملة مفيدة قصيرة حالة الاتحاد الاوروبي إنّما حالات الكثير من الأنظمة والمؤسسات والأحزاب التي تعاني من العقم والتراجع في الإنتاجية وفي العالم كله وعلى مختلف المستويات.

وكعادتنا في لبنان غرقنا في تحليلات سياسية واقتصادية واجتماعية لما حدث مع القارة العجوز، ونبت لدينا بشكل مفاجئ مئات الخبراء في الشأن الأوروبي... من دون أن يُكلّف أيّ خبير نفسه إجراء مقارنة علمية عن تشابه تداعيات الحدث مع ما نعاني منه في لبنان من تراجع مُريب ومخيف لعمل معظم السلطات العامة لدينا ومؤسساتنا وأحزابنا، خصوصاً أنّ المسبّب الأوّل لهذا التراجع إنما هو قتل عناصر الإبداع والالتزام، والأهمّ خنق «روح الانتماء» الى كلّ ما يمتّ لعمل الشأن العام بصلة.

فإذا كان لبنان يعاني أزمة دستورية خطيرة تجسَّدت في حالات الشغور المستمر في موقع رئاسة الجمهورية، وعدم احترام مجلس النواب للمواعيد الانتخابية، وحكومة يعترف رئيسها بأنها فاشلة وسبب بقائها هو الخوف من الفراغ الكامل على كلّ المستويات.

لكنّه يعاني أيضاً وخصوصاً من تراجع في روح الإبداع التي كان يتميّز بها في إيجاد مخارج لأزماته ما دفعه الى الاستسلام التام والكامل في انتظار أن تأتيه الحلول من الخارج، وقبوله غير المنطقي بالفساد الذي يجتاح مؤسّساته وتنبعث روائحه الكريهة من كلّ ملف عام أكان صغيراً أو كبيراً... روائح غطّت على أريج النفايات التي من الممكن أن تنتشر مجدّداً في بيروت في أيّ لحظة.

وفي الآونة الأخيرة، لم تعد هذه الأزمة محصورة بالقطاع العام وحده، إنما امتدّت روح قتل الإبداع والمبادرة الى عمل الأحزاب والمؤسسات الخاصة، فالذين تربّعوا على كراسيهم يعاملون ملتزميهم بوصفهم ماكينات انتخابية عليهم تنفيذ أوامرهم من دون أيّ اعتراض، أما الحوار والنقاشات المجدية فلا مكان لها في أروقة مراكز القرار.

وإدارة الأحزاب لملف الانتخابات البلدية خير دليل على الدّرك الذي وصلت اليه الامور، إذ لم نعثر على طاولة واحدة للحوار أو مركز لتقويم جدّي لنتائج الانتخابات... كلّ ما صادفنا مراكز وألقاب فارغة المضمون وتهديد وتخوين كلّ مَن حاول خلق نقاش بنّاء لإعادة الروح... تارة باتهامه بأنّه يتلقى أوامره من السفارات، وطوراً بتحويله الى محاكم حزبيّة تُذكّرنا بمجالس الحزب الشيوعي أثناء اندحار الاتحاد السوفياتي في أواخر ثمانينات القرن المنصرم... مجالس وقرارات لم تمنع من انهيار المنظومة الشيوعية إنما ساعدت في تسريع انهيارها.

وبالعودة الى الزلزال الأوروبي وانعكاسه علينا... فإنّ العبرة الوحيدة التي يمكن أن نستخلصها من لحظة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وبداية تضعضع هذا الأخير، هي إعادة الروح الى مؤسساتنا وأحزابنا عبر مزيد من النقاشات المجدية وديموقراطية حقيقية لكي لا تتحوّل الى هياكل من عظام.