ترتفع النبرة، يمتد السجال، تستعر المواجهة، تحتدم المبارزة... فتُستنفر العواطف، وتُستثار المشاعر، ويأخذ التحريض مداه...

أليس هذا ما نعيش ونسمع ونرى في هذه المرحلة التي يبدو الأقوام ليس لديهم شغل سوى اللعب على غرائز الناس وإثارة العصبيات؟!.

وإذا كان ثمة وصف لهذه الحال المقرفة التي نعيشها فهو «الإفلاس». إفلاس شامل في الإلتزام الوطني الحقيقي، وفي فهم فلسفة الكيان اللبناني، وفي أخلاقية التعامل مع الآخر.

لقد كان الحوار (ونقصد الجدال) السياسي بين الأخصام في لبنان قائماً على كثير من الرهافة والذوق والفهم، خصوصاً الفهم، والتزام الحدود. فمن حاور كتابة تميّز جداله بالفصاحة والبلاغة وليس بسقط المتاع كما هم اليوم، ومن جادل شفاهة تميّز بالبراعة والمنطق. إلاّ أنّ الجدالين لم يفتقدا حدّاً من الذوق والرهافة والنكتة التي من شأنها ان تبلسم أي جرح، فيما لو أدى الكلام الى جراح لا تلتئم كما هي الحال اليوم. فإذا ما رمى صائب بك سلام أحد خصومه واصفاً إياه بـ»البرقوق» و»الحبقوق» إنشغل أهل السياسة والصحافة بالتنقيب في القواميس عن معنى الكلمتين - الوصفين.

وتحضرني محاورة ساخنة بين المرحومين الرئيسين صائب بك سلام ورشيد أفندي كرامي خلال مناقشة بيان حكومة سلام. والمعادلة بسيطة: إذا كان سلام في رئاسة الحكومة فكرامي أحد رؤوس المعارضة. والعكس صحيح: إذا كانت الحكومة كرامية فسلام بين كبار قادة المعارضة... زمن المعارضة معارضة، والحكومة حكومة، والبرلمان برلمان، والبلد في ازدهار واللبنانيون في راحة بال.

كنّا في مطلع عهد الرئيس سليمان فرنجية رحمه الله، والرئيس سلام عائد من زيارة الى الرياض وصفها بأنها مثمرة جداً وسجّل في بيان حكومته (الذي يمثل به أمام المجلس النيابي طالباً الثقة) إنه نال وعداً أكيداً من المملكة العربية السعودية بأنها ستنشىء في لبنان مصفاة بترول ثالثة في البترون تحديداً (الأولى في طرابلس والثانية في الزهراني). وكان رؤساء المجلس النيابي المتعاقبون يميّزون الأقطاب فيعطونهم حق الكلام في آخر لائحة المتكلمين ليبقى تأثير كلامهم فاعلاً، وجاء دور رشيد افندي فقال ان لديه تأكيداً بأن المصفاة الثالثة لن تُنشأ، وان دولة الرئيس (صائب سلام) قد وقع ضحية غش، وان القيادة السعودية (وكان سلام صديقها الأول في لبنان) ليس لها علم ولم تقطع وعداً بالمصفاة...

وبقدر ما كان دولة الأفندي بارد الأعصاب هادئاً بقدر ما كان دولة أبي تمام كالبارود (على طيبة قلب مشهود له بها) سرعان ما تثور ثائرته، وبعكس كرامي الذي كان ينتظر إنتهاء المناقشات ليرد على المتحدثين واحداً واحداً من دون أن يدون أي ملاحظة، فقد كان سلام يقاطع المتحدثين ويرد على كل نقطة فور اعلانها بذريعة «كي لا يبقى عالقاً في الأذهان» كما كان يقول.

استثير سلام ووقف راداً على كرامي بقوله (كما لا تزال الذاكرة تفيد): أنا بعرف مين اللي عطاك هالمعلومات... إنه احمد زكي اليماني (وزير النفط السعودي من 1962 الى 1986) وهو متآمر على قيادته... الخ... تنفس كرامي الصعداء لأنه نجح في استدراج سلام الى إتهام اليماني... فتابع كلامه راداً على غضب سلام بقوله: ولقد أصبت منك مقتلاً يا دولة الرئيس.

وأدرك أبو تمام جسامة الخطأ الذي استدرجه اليه رشيد أفندي وقال له: «مقتل بقلبك... يقتلك قتل ما أزنخك»...

طبعاً لم تُنشأْ المصفاة الثالثة في البترون حتى اليوم. وهذا شأن آخر.

وسقى اللّه زمانهم.. كم كانوا على ظرف وطيبة وأخلاق وكرامة ووطنية وإيمان بهذا الوطن لبنان... ولا تجوز مقارنتهم بالقوم في زماننا كي لا نظلمهم ونظلم أهل هذا الزمان الرديء.