في الدول المُتحضّرة، تعود السلطة السياسيّة إلى الشعب في أيّ قرار مصيري، وهذا ما فعلته بريطانيا مثلاً خلال الأيّام القليلة الماضية عندما نظّمت إستفتاء لا يُلزمه الدُستور بشأن مسألة البقاء ضمن الإتحاد الأوروبي أو الخروج منه. وجاءت الأغلبيّة الطفيفة بنسبة 51,9 % لترسم مُستقبلاً مُغايرًا للشعب البريطاني، مع إرتدادات مُدويّة على أوروبا والعالم. أمّا في لبنان فإنّ قرار المُشاركة في الحروب الإقليميّة مُتخذ من قبل "حزب الله" ومن ورائه، من دون أيّ رأي للبنانيّين، لا من قبل الفئة الداعمة للحزب ولتدخلاته العسكريّة الخارجيّة، ولا من قبل الفئة التي تُعارض أن تمتلك مجموعة حزبيّة ومذهبيّة السلاح، وأن تُشارك في الحروب والصراعات الإقليميّة ذات الأبعاد الدَوليّة. فما هي أسباب هذا العجز؟

لا شكّ أنّ بقاء الإحتلال الإسرائيلي لجزء من الأراضي اللبنانيّة بعد إنتهاء الحرب اللبنانيّة مطلع تسعينات القرن الماضي، سمح بنموّ وتصاعد فكرة "المُقاومة" وبتقبّلها من قبل شرائح أوسع من اللبنانيّين، خاصة وأنّ الكلمة في عهدي الرئيسين السابقين الراحل إلياس الهراوي والعماد إميل لحود كانت لمُمثّلي الإحتلال السوري في لبنان، الأمر الذي سمح بإقامة جسر للأسلحة وللذخائر من إيران إلى "حزب الله" عبر سوريا، وبالتالي بنموّ قُدرات "الحزب" العسكريّة بشكل لم يعد من المُمكن ضبطها أو مُواجهتها حتى لو إتخذ قرار سياسي بذلك في يوم من الأيّام. وفي السنوات القليلة الماضية جاءت جرائم الجماعات الإرهابيّة مثل تنظيم "داعش" وغيره، حجّة مثاليّة، لتوسيع تدخّلات "الحزب" الإقليميّة بشكل علني. ولا شكّ أيضًا أنّ "حزب الله" يملك قاعدة شعبيّة واسعة داعمة له في لبنان، تبدأ بالدائرة الحزبيّة الضيّقة التي تستفيد من رواتبه ومن خدماته الإجتماعيّة، وتمرّ بالدائرة المذهبيّة التي تُناصره لأسباب دينيّة وعقائديّة، وتصل إلى دائرة لبنانيّة واسعة تدعمه لأسباب ولمصالح سياسيّة. وبالتالي، بات "حزب الله" اليوم يفرض نفسه كلاعب محلّي وإقليمي خارق القُوّة خارج ضوابط وقوانين السُلطة اللبنانيّة، إنطلاقًا من قُوّته العسكريّة الكبيرة، ومن نُفوذه السياسي والمالي المُستمدّ من الدعم الإيراني له، ومن حُضوره الشعبي المتعدّد الجوانب والأسباب.

لكنّ هذا الواقع جعل الفئة المُعارضة لسياسات "الحزب"، والتي لا يُستهان بحجمها الشعبي أيضًا، في موقع العاجز عن تغيير حرف في هذه السياسات، في ظلّ هامش تحرّك لها يتراوح بين الصمت خوفًا ومُحاولة التعايش مع الأمر الواقع على مضض، وبين رفع الصوت تنديدًا بما يحصل في أفضل الأحوال. ومن بين الأسئلة التي تطرحها هذه الفئة من اللبنانيّين، والتي ليست "صُهيونيّة"-كما يتمّ إتهامها، حتى لو كانت غير مُؤيّدة للثورة الخمينيّة، ولا مُؤيّدة للتكفيريّين-كما يتمّ إتهامها أيضًا، حتى لو كانت ضُدّ الرئيس السوري بشار الأسد:

أوّلاً: هل يُعقل أن يبقى أمن لبنان، وإستقراره الإقتصادي المالي والإجتماعي، أسرى الصراع الإيراني مع الدول الخليجيّة، وبالتالي أسرى حروب "حزب الله" في سوريا وغيرها، كترجمة ميدانية لهذا الصراع السياسي والمذهبي والعقائدي؟!

ثانيًا: هل يُعقل أن تبقى السياحة في لبنان، بكامل أوجهها، رهينة خطابات "الحزب" مع الدول الخليجيّة، مع كل الإنعكاسات السلبيّة لأيّ تهجّمات سياسيّة وكلاميّة بين الطرفين، على مصالح فئات واسعة من اللبنانيّين؟!

ثالثًا: هل يُعقل أن يبقى لبنان أسير سياسة التخويف التي يعتمدها "الحزب" لتبرير تدخلاته العسكريّة في الخارج، وكأنّ الجيش اللبناني هو جمعيّة كشفيّة لا تقدر أن تُدافع عن لبنان، أو كأنّ اللبنانيّين من مختلف الطوائف والمذاهب والأحزاب، سيقفون موقف المُتفرّج في حال دخول أيّ مجموعات إرهابيّة إلى عمق أراضيه؟!

رابعًا: هل يُعقل أن يُرسل "الحزب" مُقاتلين ومُدرّبين ومُستشارين عسكريّين، أو أن يُهدّد علنًا بذلك، إلى المناطق الساخنة إقليميًا مثل سوريا والعراق واليمن، إلخ. وكأنّ العراق البلد الذي يضمّ 38 مليون نسمة يفتقر للرجال، أو كأنّ ميليشيا "الحشد الشعبي" هي جمعيّة خيريّة، أو كأنّ العراق سيُرسل في المُقابل مُقاتلين للدفاع عن لبنان إذا ما تعرّض لأيّ خطر؟! وفي السياق عينه، هل يُعقل أن تستعين إيران بمقاتلين لبنانييّن للقتال وللموت في سوريا أو سواها، وهي تملك جيشًا يزيد عدده عن نصف مليون من دون الإحتياط، وتملك ميليشيات "الباسيج" الشعبيّة التي تُعدّ بمئات الآلاف أيضًا؟!

خامسًا: هل يُعقل أن لا يكون الجيش اللبناني هو القوّة العكسريّة والوحيدة على الأراضي اللبنانيّة، وأن لا تكون أيّ قوّة غير نظاميّة رديفة-إذا كان من ضرورة لوجودها لمُواجهة أيّ إعتداء إسرائيلي مثلاً، تحت أمرة قيادة الجيش اللبناني، وتتحرّك بناء على توجيهاته؟!

سادسًا: هل يُعقل أنّه بدلاً أن يتمّ تقوية الجيش اللبناني، والعمل على سحب السلاح الفردي من منازل اللبنانيّين ومن بقايا بعض الميليشيات، أن يُصبح "حزب الله" بكل امتداداته العقائدية والمذهبيّة الإقليميّة أمرًا واقعًا مُتعايشًا معه، ومع حروبه السياسيّة والعسكريّة، في ظلّ عجز كامل للسلطة اللبنانيّة ولقسم كبير من الشعب اللبناني عن التأثير أو إسماع الصوت؟!

سابعًا: هل يُعقل أن يبقى الكثير من اللبنانيّين عرضة ليل نهار، لتهديدات بعض السياسيّين والإعلاميّين الذين يستقوُون بسلاح "الحزب"، ويُهدّدون به لبنانيّين آخرين؟!

في الختام، يستطيع أمين عام "حزب الله" السيّد حسن نصر الله أن يخطب مرارًا وتكرارًا عن الأخطار المُحدقة بلبنان، وعن المُؤامرات المُحاكة ضُدّ المنطقة، والكثيرون يؤيّدونه في كل كلمة يقولها، ومُستعدّون لتنفيذ تعلياماته ولتحمّل إنعكاسات سياساته، لكنّ الكثيرين أيضًا سئموا توريط لبنان في حروب الآخرين إنطلاقاً من عقائد سياسيّة ومذهبيّة ضيّقة تخصّ مجموعة دون سواها، وتوريط كلّ اللبنانيّين بها. والكثيرون مِمّن سمعوا كلام السيد نصر الله الأخير عن التمويل الإيراني للحزب، لم يعودوا يهتمّون بكل التفسيرات التي تُعطى لتبرير تدخّلاته العسكريّة الإقليميّة، ويكتفون بالمثل القائل: Celui qui donne ordonne، أيّ أنّ الذي "يُعطي (المال)، يُعطي الأوامر"!