عاد شبح التفجيرات الانتحارية ليُطلّ برأسه في لبنان. هذه المرة من بوابة القاع البقاعية. في 12 آذار الماضي وجه مقاتلان لبنانيان، ينتميان إلى تنظيم داعش مكشوفَي الوجه، من المكتب الإعلامي لولاية الرقة رسالة إلى مسيحيّي لبنان، داعين "رعايا الصليب إلى التسليم لله والإيمان بنبوة محمد، كي يعصموا دماءهم وإلّا فالجزية، وإنْ أبوا فلن يُعجزوا دولة الإسلام".

عقائدياً، تستهدف التنظيمات الإرهابية كلّ الأقليات في المشرق. ليست بحاجة إلى مسوّغ سياسي للقيام بذلك. لن تكون الدولة اللبنانية بمنأى عن انتقامهم والعمل لإضعافها، لأنها في حالة محاربة ضدّهم، وتحالف مع "الشيعة" في مواجهتهم في الجرود.

هل ما حصل في القاع أمس، من تفجيرات انتحارية صباحاً ومساء ذهب ضحيتها خمسة شهداء وعشرات الجرجى جرس إنذار للمسيحيين؟ هل العملية كانت تستهدف البلدة ككنيسة ومسيحيين أو كأهداف عسكرية داخلها؟ أم أنها كانت محطة باتجاهات أخرى؟ إنّ سرعة تفجير الانتحاريين الأربعة أنفسهم تشير إلى أنّ القاع هي الهدف. حدودها الشمالية مشاريع القاع بمعنى أنها محاطة بجزء كبير جداً من مخيمات النزوح السوري. ومن الشرق جرود عرسال - القارة، في إشارة إلى معبر جوسيه الذي يربط جرود القاع بمدينة القصيْر، ويمكّن العصابات المسلحة من أن تستفيد من المعابر غير الشرعية للتسلل إلى البلدة.

نجح حزب الله والجيش اللبناني على مدى السنوات الخمس للأزمة السورية في تجنيب المناطق المسيحية، بالتعاون مع اللجان الشعبية التي تشكلت من أهالي القرى، أية عمليات إرهابية يشنّها تنظيما داعش والنصرة. تؤكد مصادر كنسية أنّ ما قام به حزب الله في محاربة التكفيريين على تخوم السلسلة الشرقية في القصيْر والقلمون ساهم في الحفاظ على الوجود المسيحي في البقاع الشمالي. كان خط القاع - الفاكهة - رأس بعلبك - دير الأحمر تحت حماية مجاهدي المقاومة والجيش. أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطاب له عام 2014 إنّ حزبه سيحمي المسيحيين اللبنانيين من الإرهاب.

لا يُخفى على أحد أنّ الشباب المسيحيين وغير المسيحيين تعاونوا مع حزب الله في تلك المناطق. لا تتماهى القاعدة الشعبية لمعراب وبكفيا، مع موقف أحزابها بالاتهامات الموجهة ضدّ أمينه العام. حصل تعاون بين شباب المقاومة والشباب المسيحيين في الجنوب وراشيا ودير الأحمر والقاع ورأس بعلبك والفاكهة ونحلة. كانت المجموعات الحزبية من القوات والكتائب ترسل إلى قياداتها نوعاً من التذمّر والتمرّد على نهجها وتصرّ على التعاون مع مقاومي حزب الله لحماية قراها، فكانت تنظم حراسات ليلية لإبعاد خطر الإرهاب.

إنّ سيناريو استهداف القرى المسيحية في لبنان احتمال قائم وموجود. دلّت عشرات المعطيات إليه وتحدّثت عن احتمال ارتكاب مجزرة في قرية مسيحية وتهجير أهلها. إنّ اقتلاع المسيحيين من أرضهم في الشرق جزء من ثقافة الإرهابيين. التاريخ يشهد في سورية. جرى حرق كنائس عدة (كنيسة أمّ الزنار بحمص، كنيسة القديس كيفورك للأرمن الأرثوذكس، والكنيسة الإنجيلية العربية في حلب، دير صيدنايا، ودير معلولا بريف دمشق، كنيسة سيدة البشارة في الرقة وغيرها كثير). وخلت قرى معربا في درعا وحرستا في ريف دمشق والغسانية في إدلب والدوير في حمص، والقصيْر في ريفها ومعلولا في دمشق والرقة ومحردة وربلة السورية قرب الحدود اللبنانية، جميعها من المسيحيين. اختطف المطرانان يوحنا إبراهيم وبولس يازجي. هذا فضلاً عن التهجير القسري لمسيحيي الموصل على يد داعش، والخطف والتهجير اللذين تعرّض لهما الأيزيديون في سنجار.

تدين هذه الأدلة، والانفجارات الليلية قرب كنيسة مار الياس في القاع، رئيس حزب القوات اللبنانية ​سمير جعجع​ ومنظومته. سارع قائد معراب للقول إنّ القاع لم تكن مستهدفة، بل كان يوجد انتحاريون مختبئون بانتظار أحد أو سيارة تقلهم إلى مكان آخر. تضمّن تصريحه تبرئة ذمة التكفيريين من نية الاعتداء على المسيحيين. لا يريد الحكيم إسقاط خطابه السياسي الذي اعتمده في الماضي. حساباته السياسية تُعمي بصيرته المسيحية. لا يعني موقفه من الإرهاب مناصريه في البقاع الشمالي فأولوية الحفاظ على أمن هذه القرى بالنسبة لهؤلاء أهمّ بكثير من الخطاب السياسي لـ"القوات". تتناقض سياسة معراب مع مسار التطورات في سورية والعراق كله وكذلك في أماكن أخرى. لا يمكن لتصريحاته أن تطمس وقائع أنّ المسيحيين كانوا دائماً هدفاً للمجموعات الإرهابية.

إنّ العدوانية تجاه حزب الله وتحميله مسؤولية ما يحصل ليسا ولم يكونا يوماً مبرّرين في ظلّ مخاطر داهمة تواجه هذه القرى البقاعية والشمالية. يقول أبناء القاع إنّ المخاطر تتهدّد كلّ لبنان. القرى المسيحية جزء من حالة الاستهداف وهدف دائم لهذه المجموعات، ما يرفع من الحساسية الأمنية ودرجة التحسّب فيها.

هل بدأت المرحلة المحذَّر منها أن لبنان مقبل عليها، لتطلّ برأسها بانتحاريين بدأت طلائعهم؟ توجّهت الأنظار منذ أسبوع إلى الضاحية الجنوبية. استنفارات أمنية. حواجز الجيش وحزب الله بالعشرات بحثاً عن انتحاريين.

انتظروا الانتحاريين والسيارات المفخخة في الضاحية، فظهرت بدايتها في القاع. متى، وأين، وماذا بعد؟