هي سابقةٌ من نوعها في لبنان أن يعود حزبٌ ما إلى قواعده الشعبية والتنظيمية لتحديد أسماء مرشحيه للانتخابات النيابية. أصلاً هي سابقة من نوعها أن لا تهبط أسماء المرشحين على المحازبين والمناصرين بالمظلّة من دون سابق إنذار.

لكنّ "التيار الوطني الحر" فعلها. توازيًا مع "التجديد" الذي اختاره عنواناً منذ "تنحّي" رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون عن رئاسته لصالح الوزير ​جبران باسيل​، قرّر "التيار" أن تكون "الكلمة الفصل" للقواعد.

ولكن، هل هي كذلك بالفعل؟ هل سيكون بمقدور "العونيين" القول لمرّة أنّهم صنعوا نوابهم بأنفسهم، أم أنّ في "التفاصيل" أكثر من "شيطان" من شأنه أن يقلب الصورة؟ ولماذا بدأت ترتفع الأصوات داخل "التيار" وخارجه عن أنّ القانون مفصَّلٌ على قياس البعض، بل عن "نوايا مبيّتة" من خلفه؟

سابقة من نوعها

في الشكل، لا شكّ أنّ خطوة "التيار الوطني الحر" سابقة من نوعها، بل تجربة فريدة على الأقلّ في الحياة الحزبية اللبنانية، بحيث لم يسبقه إليها أيّ من الأحزاب اللبنانية، الكبيرة منها كما الصغيرة، التقليدية والعريقة كما المستجدّة على المشهد السياسي، والتي درجت العادة فيها أن يتمّ الإعلان عن أسماء مرشّحيها من قبل "القيادة"، ومن دون أيّ "نقاش".

من هنا، فإنّ هذه الخطوة تشكّل "قيمة مضافة" بالنسبة لـ"التيار الوطني الحر"، وهو في مرحلة "تجديد الشباب" كما يحلو للبعض وصفها، خصوصًا بعد التغييرات التي طرأت عليه منذ استلام الوزير باسيل دفّة رئاسته، والتي أحدثت ما أحدثته داخله من "تباينات" و"خلافات" بين "رفاق الصفّ الواحد"، وهو ما تكرّس أكثر وأكثر في الانتخابات البلدية الأخيرة.

أما في المضمون، فإنّ هذه الخطوة سوف تمرّ "تنظيميًا" بعدّة مراحل، قد تكون أوّلها هي أكثرها "حماوة" داخل "التيار"، وهي التي سيقرّر بموجبها "المحازبون" أسماء المرشحين الذين سيخوضون السباق، وذلك بحسب الأقضية المعتمدة في قانون الستين، على أن تتمّ "غربلتهم" في مرحلة لاحقة. وإذا كانت هذه المرحلة ستنطلق كما الانتخابات المناطقية الأخيرة من سجلات النفوس لا مكان السكن، رغم أنّ النظام الداخلي لـ"التيار" يخيّر أعضاءه عند انخراطهم في صفوفه بين الانتساب إلى هيئةٍ محليةٍ مناطقيةٍ وفق قيدهم أو سكنهم "حسب اختيارهم"، فإنّ "المفاجأة" التي حملها النظام قيامه على قاعدة "one man one vote"، وهو ما أحدث بعض "البلبلة" في صفوف "التيار"، دفعت رئيسه جبران باسيل لإصدار العديد من التعاميم "التوضيحية" في الأيام القليلة الماضية، مع إبقاء بعض "الغموض" حول أكثر من نقطة.

أما المرحلة الثانية، والتي يفترض بها "غربلة" الأسماء التي تمّ اختيارها في المرحلة الأولى، والتي حدّدها النظام بنسبة 1.5 من عدد المقاعد المخصصة لكل مذهب كحدّ أقصى، فستوسّع الدائرة من "المحازبين" إلى جميع ناخبي كلّ قضاء على حدة، وذلك من خلال استفتاءٍ شعبي تقوم به شركات استطلاع متخصّصة، لتقوم لجنة الانتخابات التي يرأسها أمين سر التيار إبراهيم السمراني بدراسة النتائج في المرحلة الثالثة وعرضها على رئيس التيار، الذي يبقى صاحب القرار الأخير في النهاية.

اعتراضاتٌ بالجملة

هكذا، تبدو الفكرة بحدّ ذاتها مبهرة، ويعزّز "تعقيدها" من هذا "الإبهار" أكثر وأكثر. ولكن، وبعيداً عن شكلها "البرّاق"، فإنّها اصطدمت سريعًا بالكثير من علامات الاستفهام والتشكيك، شأنها شأن مختلف خطوات ما اصطلح على تسميتها بـ"المرحلة التأسيسية" في الآونة الأخيرة، والتي قيل أنّها فُصّلت على قياس رئيس "التيار" أولاً وأخيراً.

وإذا كان نظام "one man one vote" المعتمَد للمرة الأولى هو، برأي مؤيّدي القانون، من "القفزات الإيجابية"، باعتبار أنّه يوفّر عدالة في التمثيل، فإنّه أثار الكثير من اللغط، خصوصًا أنّه على كلّ محازب بموجبه أن يصوّت لمرشح واحد فقط في دائرته الانتخابية بصرف النظر عن مذهب المرشح وطائفته، ما يساهم بتكريس "زعامات مطلقة"، وبالتالي ظلم بعض الأشخاص على حساب آخرين، الأمر الذي يمكن أن يؤدّي إلى وصول الفارق بين الأول والثاني إلى مئات الأصوات وقد يتخطّى الألف في بعض الأحيان.

ولأنّ كلّ "محازب" مضطر لاختيار شخصٍ واحدٍ فقط، يرى كثيرون أنّ هذا القانون "مفصَّلٌ" بشكلٍ أو بآخر على قياس النواب وأصحاب النفوذ، خصوصًا أنّ هيئات الاقضية التي أفرزتها الانتخابات المناطقية الأخيرة محسوبة بشكلٍ أو بآخر على نوابٍ معيّنين هم من دعموها، وبالتالي فإنّ أصواتها ستصبّ لصالح هؤلاء النواب، مكرّسة زعامتهم، وبالتالي فارضة إياهم على لوائح "التيار" الجديدة.

ولعلّ ما يزيد الطين بلّة، بحسب هؤلاء المعارضين، أنّ القانون الانتخابي ينصّ على أنّ كلّ مرشّح عليه أن يموّل حملته الانتخابية من حسابه الشخصي، ما يجعل المنافسة غير متكافئة على الإطلاق بين النواب الحاليين وأصحاب رؤوس الأموال من جهة، وبين المناضلين الذين يفترض أن يكون من حقهم الوصول إلى مراكز قيادية داخل "التيار"، ولو لم يكونوا من المصنَّفين في خانة "الأغنياء".

وإذا كانت المآخذ على المرحلة الثانية تنطلق من "عنوانها" ألا وهو استطلاعات الرأي، في ظلّ الشكوى الدائمة في لبنان من عدم صدقية هذه الاستطلاعات، وهو ما ثبت في الانتخابات النيابية والبلدية بدوراتها السابقة وغيرها، فإنّ مأخذاً يُضاف إلى ذلك يتعلق بـ"الخط العسكري" الذي مُنِح للبعض داخل "التيار"، عبر إضافة أسمائهم إلى هذه المرحلة دون اجتياز المرحلة الأولى. ففي حين يشترط القانون على كلّ طامح بالترشح أن يكون حاملاً لبطاقة حزبية منذ سنتين بالحدّ الأدنى، فهو يستثني نواب ووزراء الحزب الحاليين من ذلك، ويسمح لهم بالمشاركة في استطلاعات الرأي، الأمر الذي أوحى أنّه مفصَّلٌ على قياس البعض، وتحديداً وزير التربية الياس بو صعب والنائب أمل أبو زيد.

وبطبيعة الحال، لا يأخذ هذا القانون التحالفات "المستجدّة" بعين الاعتبار، ولا سيما منها التحالف مع "القوات اللبنانية"، وهو الذي يخشى "العونيون" في أكثر من قضاء أن يأتي على حسابهم، بحيث تتمّ "التضحية" بالعديد من المقاعد "العونيّة"، وتجربة الانتخابات البلدية تؤكد هذا المنحى، باعتبار أنّ "الحكيم" أخذ بالمنظور "العوني" اكثر بكثير ممّا أعطى، وهذا الأمر مرشّح للتكرار في الانتخابات النيابية، علمًا أنّ "القوات" غير ممثلة أصلاً في معظم أقضية جبل لبنان، من بعبدا إلى كسروان مروراً بالمتن وغيرها.

أنا الآمر الناهي؟!

تبقى الطامة الكبرى، برأي المعارضين "البرتقاليين"، في أنّ النظام الانتخابي، مع كلّ عناصر التنظيم والإبهار، يترك الكلمة الأولى والأخيرة بيد رئيس "التيار" جبران باسيل والمجلس السياسي المحسوب أصلاً عليه، بفضل التعديلات التي أحدثها هو على تركيبته.

هكذا، فإنّ الرسالة وصلت، بحسب المعارضين، فباسيل الساعي لتكريس "زعامة" في البترون، مع استبعاد ترشح أيّ "عوني" في وجهه، حتى وإن كان راسباً نيابياً مرّتين، يقولها لهم من جديد: "أنا الآمر الناهي، ونقطة على السطر"!