لم تكد تمضي ساعات قليلة على التفجيرات الإرهابية في بلدة ​القاع​ البقاعية، حتى خرجت إلى الأضواء مجموعة من التحليلات "المراهقة"، التي تحمل في طياتها مؤشّرات خطيرة حول "هشاشة" الوضع اللبناني على المستويين الإجتماعي والسياسي، في وقت من المفترض فيه أن تكون مثل هذه الأعمال دافعاً إلى الإلتفاف الوطني، لمواجهة الخطر الذي بات يهدد العالم بأسره، بالتعاون بين القوى والتيارات الفاعلة في البلاد، لتأمين غطاء لعمل الأجهزة الأمنية على الأقل.

لا أحد ينكر الإنقسام القائم بين ما تبقى من قوى الثامن والرابع عشر من آذار، بسبب الخلافات المتعددة حول مجمل الملفات، من رئاسة الجمهورية إلى مجلس النواب والوزراء، لكن هل من القبول أن تكون التهديدات الأمنية دافعاً إلى المزيد، لا سيما أن البعض لم يتردد بالذهاب نحو طرح المشاريع الفيدرالية، معتبراً أنها الحل لـ"حماية مناطقه"، في حين أن هكذا أفكار قد تؤدي إلى الكارثة، في ظل مواقف بعض الأفرقاء، الذين سربت أوساطهم، قبل أشهر قليلة، أنهم على استعداد لحمل السلاح من جديد لإسقاط أي مشروع تقسيمي؟

"القاع غير مستهدفة ولا شيء يدعو إلى القلق"، هكذا كانت خلاصة قوى وشخصيات سياسية، بعد الكشف عن الجريمة الإرهابية الخطيرة، فهي تبنّت السيناريو الذي يقول إن الإنتحاريين كانوا ينتظرون من ينقلهم إلى مكان آخر، لكن هل هذا الأمر لا يدعو إلى القلق فعلاً وما المقصود بذلك؟

هذا الكلام يقود إلى تفسير واضح، هو أن الإنقسام القائم يدفع البعض إلى عدم الإهتمام، بحال كان المستهدف هو جمهور الفريق الآخر أو "مناطقه"، فهو يرى أن معركة تنظيم "داعش" الإرهابي ليست معه، بل مع فريق محدّد دون غيره، هو "حزب الله" بالتحديد، الذي يخوض معارك ضده في سوريا والعراق، وبالتالي يعود إلى النقطة الأولى من السجال: ماذا لو لم يتدخل الحزب في الحرب السورية؟ لتكون إجابته بأن لبنان كان سيكون بمنأى عن النيران المشتعلة في محيطه. هو مؤمن بهذا الأمر ولا يمكن أن يتراجع مهما كان الثمن، في حين أن الفريق المقابل يؤمن بالعكس، بمعنى أنّ الأمور ستكون أصعب فيما لو لم يذهب الحزب إلى قتال تلك الجماعات بعيداً عن الأراضي اللبنانية، أما الإختراق الأمني فهو من الممكن أن يحصل في أي مكان من العالم، ولكن ماذا بعد؟

بعيداً عن هذا الجدل الذي لن ينتهي في الوقت الراهن، والذي قد يكون من من المفيد تركه إلى المستقبل لمعرفة الحقائق، بعيداً عن العصبيّات القائمة منذ العام 2005، أي بعد إغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، لماذا يتجاهل، من يتبنى نظرية أن لا شيء يدعو للقلق، أن المراجع الأمنية التي أفادت أولاً عن عدم إستهداف ​بلدة القاع​ في التفجيرات الأخيرة، تتحدث منذ مدة عن قائمة أهداف لا تستثني منطقة من المناطق اللبنانية، بل هي تشمل مراكز أمنية وسياحيّة، ضمن مخطط يهدف إلى زعزعة الإستقرار المحلي وإشعال فتنة مذهبية أو طائفية، وبالتالي التنظيمات الإرهابية تختار أهدافها بدقة على أمل الإستفادة من التداعيات، ليس على مستوى إنزال أكبر قدر من الضحايا والخسائر فقط، بل أيضاً لناحية توفير أجواء تعطيها القدرة على التحرك بشكل أفضل، فهي أصلاً لا تنجح بالعمل إلا في حالات تفتت الدولة والأجهزة الرسمية، أو إرتفاع منسوب الإحتقان الإجتماعي بسبب النعرات المختلفة؟

ما تقدم، يقود للسؤال عن الأسباب التي تدفع أغلبية دول العالم، إلى التعبير عن قلقلها من مخططات إستهداف دول بعيدة عنها آلاف الكيلومترات، في وقت هناك من يريد من اللبنانيين ألاّ يقلقوا لأنّ التنظيمات الإرهابية تريد استهداف مناطق دون غيرها، وكأنها عندما هاجمت مراكز الجيش وقوى الأمن الداخلي، في معركة عرسال، ومن ثم أقدمت على خطف عدد منهم وقتل أخرين، كانت تستهدف فئة دون أخرى أو كانت "تمزح"، أو أن الطروحات الفيدرالية التي يخرج بها البعض هي الحلّ الأنسب، معتقداً بأن الموجة التي تجتاح المنطقة من الممكن أن تصل إلى لبنان، من دون أن يسأل نفسه عن ثمن ذلك، لا سيما أن الكيانات الجديدة التي تخرج إلى النور تولد بالدم والنار والخراب.

في المحصلة، هناك أخطار محدقة بالبلاد لا تستثني أي منطقة، وهو ما تأكد من خلال الدفعة الثانية من التفجيرات التي حصلت في القاع، وهي حكماً لا تنفصل عن تلك التي تهدد معظم دول العالم، والتي وصلت قبل اليوم إلى الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا، والتعامل معها لا يكون على قاعدة "النكايات" أو "المراهقة" السياسية، بل على العكس المطلوب وعي الجميع خطورة المرحلة، وإلا الكارثة قادمة لا محالة.