لم يسقط العقد الاجتماعي في القاع ساعة دعا رئيس بلديتها علنًا السكان الى التصويب بما لديهم من أسلحة على كلّ من يُشتبَه في حركته الغريبة في البلدة، ولن يسقط ذاك العقد أمام مشهدية تسلُّح النساء القاعيّات اللواتي يجُبن الشوارع حاملاتٍ رشاشاتهن شأنهنّ شأن رجالات البلدة وجوارها. القاع تسلّحت في الأمس وتتسلّح اليوم لا من باب الشكّ في قدرات الجيش الحمائيّة، بل من باب التحوُّط من إرهاب يقف على عتبات الأبواب ويسرح في الساحات في وضح النهارات وعتمات الليالي.

الجميع في القاع حُرّاس. هم لا يخشون الظهور أمام العدسات ليقولوا بالفم الملآن: نعم نحن مسلّحون. لا يرضى هؤلاء المزايدة على الجيش الوطني الذي تمنّى عليهم تلافي المظاهر المسلّحة في شوارع البلدة وضبط النفس، ومع ذلك يجدون أنفسهم مضطرين الى حماية أراضيهم وأعراضهم حيثما يحتاجهم الجيش عتادًا وعديدًا.

فرضيّتان...

لم تكن تلك البلدة التي ينظر اليها كثيرون على أنها خاصرة الحدود الطرية يومًا نائمة على حرير أو في منأى عن الإرهاب الحدودي، ولن تكون كذلك طالما أنها تحتضن واحدًا من أكبر مخيمات النازحين السوريين وأكثرها خطورةً نظرًا الى تماسه مع الجرود الفاصلة بين الداخلين اللبناني الحذر والسوري الملتهب. واقعٌ يرسم الطريق الى فرضيّتين مرتبطتين بالمَنفذ المُصدّر لهذا العدد الكبير من الانتحاريين في يومٍ واحدٍ بالنسبة الى بلدةٍ مسيحية هادئة لا يُسجَّل فيها وجود لعناصر حزب الله: الفرضية الأولى تذهب في اتجاه الجرود التي تعجّ بالإرهابيين المدفوعين من الداخل السوري وتحديدًا من معارك خاسرة بعدما ضيّق الجيش السوري وحزب الله الخناق عليهم، فلم يجدوا سوى في جرود لبنان الشمالية والبقاعية مفرًّا. وهي فرضية غير بعيدة من المنطق لا سيّما أن معظم التفجيرات الانتحارية السابقة تُثبت ضلوع عابرين من الجرود من منافذ ونواصٍ لا يمكن للجيش عديدًا وعتادًا ضبطها. أما الفرضية الثانية فتنحو مدعومة بكثير من الواقعية والالتماس الميداني الى مشاريع القاع التي يمكن أن تكون مخزنًا هائلًا للمخططين والمنفذين وراسمي بنك الأهداف الذي يبدو أنه لا يستثني القاع وجوارها من قرى الفاكهة ورأس بعلبك والعين وعرسال. وهي الفرضية التي قرر وزير الداخلية نهاد المشنوق نسفها من أرض الواقعة مشيرًا الى أن العدد الأكبر من الانتحاريين يأتي من إمارته في الداخل السوري لا من المخيمات. موقف يضعه كثيرون في إطار من ثلاثة: إما المزايدة السياسية على المتخوّفين من قنابل المخيمات والداعين الى إقفال الحدود والتضييق على النازحين، وإما من باب تهدئة النفوس وتلافي ردّ فعل عكسي لا تُحمَد عقباه من نازحين ضاقت بهم كل السبل وباتت كل الاحتمالات الانتقامية بشتى الطرائق واردة بالنسبة اليهم، وإما التلميح الى جهةٍ تمسك بزمام الحدود اللبنانية السورية وبالتالي تتهاون مع عبور بعض هؤلاء الى الداخل لأن من صالحها تفجير الأوضاع في لبنان.

حلقة أولى في المخطّط

لماذا القاع استهلالًا وفي هذا التوقيت بالذات؟ القاع لأن الإرهاب ينظر اليها على أنها الكتف المؤلمة الواهنة للدولة اللبنانية في الجرود البقاعية ظنًا منهم أن لا من يدافع عنها بحكم خصوصيّتها المسيحية غير الشيعية التي تشهد وجودًا مسلحًا مكثًفا لعناصر حزب الله. القاع لأنها المعبر الأكثر يُسرًا للإرهابيين المفروزين والمُعبّئين فكريًا وعقائديًا وتسليحًا خير تعبئة. القاع لأن جغرافيّتها تلعب في غير صالحها نظرًا الى المساحات الشاسعة التي تحتضنها من مناطق مأهولة ومشاعاتٍ وجرود تصعّب على الجيش والقوى الأمنيّة وأبناء البلدة المسلحين ضبطها من كلّ الجهات والإحاطة بما لا يحمل الشكّ بخرقٍ ما. القاع لأنها ببساطةٍ قد تكون الحلقة الأولى في مخطّط “داعش” الأكبر الهادف الى بناء إمارته “الجرديّة” التي قد تضمّ ستًا الى سبع قرى، تبدأ باقتحام الأضعف فيها وتستكمل مشوارها في اتجاه بيئاتٍ مضمونة وحاضنة كعرسال.

خيوطُ التوقيت

البحث في توقيت التفجيرات لا يلغي حقيقة أن الهجمات كان مُعدًّا لها سلفًا وأتت في سياق المخطّط الإرهابي الاقتحامي، بيد أن تضافر عناصر داخلية جمّة قد يقف وراء تسريع وتيرة تنفيذها لتأتي بهذه العشوائية نهارًا وليلًا ولتستنزف من الإرهابيين هذا الكمّ من الأجساد المستعدة لتفجير نفسها. قد يكون الربط بين التفجيرات وجملة عوامل سياسيّة عشوائيًا هو الآخر بيد أنه قد ينسج خيوطًا تشي بصلاتٍ عضويّة لا يمكن غضّ الطرف عنها: أوّلًا، تأتي هذه التفجيرات لتستفيد من تفاقم الاهتراء السياسي داخل مؤسسات السلطة ومن الشغور الرئاسي المتمادي وضعف الالتفاف حول المؤسسات الأمنية بسبب التلهّي بملفاتٍ معيشيّة عالقة لا تجرؤ الحكومة على مقاربتها خوفًا من تسريع وتيرة انتشار المرض في جسدها المتعفّن. وعليه، كلما ضعُفت إرادة الوحدة ووَهُن التماسك الداخلي كلما ازدادت المجموعات المتسللة قوّة ونهلت من الجرح اللبناني النازف مزيدًا من مشهديات الدم. ثانيًا، وقعت هذه التفجيرات بعد ساعاتٍ تحديدًا من إعلان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عن سياسة تضييق على عمل النازحين في البلديات التي يسيطر عليها التيار من خلال منعهم من العمل، وهو الذي كان اتُهم منذ أربع سنوات بالعنصرية يوم دعا الى إقفال الحدود خوفًا من التسيّب الذي يشهده الداخل اللبناني والمخيمات المكتظة. ثالثًا، بات جليًا بالنسبة الى راصدي الوضع السوري أن حلب ستكون أمّ المعارك، وأن حزب الله لا ينوي الانسحاب من الميدان السوري إلا بعد تطهير حلب وما بعدها، وهو ما أعلن عنه جهارًا السيد حسن نصرالله على مسافة زمنية من التفجيرات لا تتجاوز الأيام. رابعًا، وأخيرًا يزداد تضييق الجيش اللبناني على المسلحين في الجرود من خلال دكّهم بمدفعياته وأسلحته الثقيلة بين الفينة والأخرى، وعليه كان لا بدّ من ردّ فعل عكسي من خلال هجوم مضاد يستهدف الوطن أولًا والجيش ثانيًا والقاع ثالثًا.

ثقة عمياء

اليوم، بعد هذه المشهدية المقلقة في القاع التي قد لا تكون آخر عنقود الحقد الإرهابي على القرى الحدودية، وفي غمرة استنفار البلدات المجاورة العُرضة هي الأخرى لأبشع أنواع التسللات، لا حاجة الى الغوص في “المطلوب” وهو الغارق في كليشيهاتٍ ينتظر السياسون مناسباتٍ مماثلةٍ ليتشدّقوا بها على شاكلة انتخاب الرئيس والوحدة الوطنية واليد الواحدة والتمسّك بالأرض وسواها، وهي ما يتصدّر عكسها تمامًا شفاههم طوال أيام الشهر بلا هوادة أو روادع. قد لا يعي مُطالبٌ بنشرٍ قوات دولية على الحدود الشمالية حقيقة ما يطلبه وما يحمله مثل هذا الطلب من إضعافٍ متعمَّد للجيش الوطني الذي يحتاج الى ثقةٍ عمياءٍ والتفافٍ أكثر عماءً قبل أي عتادٍ، وتلك الثقة التي تدفعه الى رفض المظاهر المسلحة في القاع وجوارها لأنه على يقين من قدرته على حماية الأملاك والأعراض، لا يُمكن أن تُبنى باستبداله بقواتٍ غريبة من باب التشكيك في قدراته.

حرّاس الأطراف

هي ساعاتٌ وتستعيد البلدة عافيتها من دون أن تغمض للجيش المنتشر فيها كما ولسكانها عينٌ ومن دون أن يرتاح قلبٌ. فالجرد الأكبر في لبنان قد يعد بمزيدٍ من التفجيرات التي ألمح اليها وزير الداخلية، والتفلّت الذي يخشى أبناء المنطقة أن يحوّل مشاريع القاع الى نهر بارد ثانٍ لا يطمئن ولا يدفع السكّان الى إسقاط “أمنهم الذاتي” إرضاءً لبعض الساخرين من صورةٍ نائبٍ مسيحي يحمل سلاحًا فيما ينتقد السلاح غير الشرعي لحزب الله. سيبقى هؤلاء كما كانوا في الأمس وأكثر وبالتنسيق مع الجيش اللبناني وحزب الله في الجوار حرّاس أطراف كي لا يعبث الظانون أن القاع هي الحلقة الأضعف، وكي لا تكون القاع بوابة سقوط ما تبقى من لبنان... الى قاع القاع.