فضحت العمليات الانتحارية التي نفّذها الإرهابيون في مطلع الأسبوع الحالي في بلدة القاع اللبنانية، البنية السياسية وغير السياسية اللبنانية، وأماطت اللثام عن حجم المخاطر التي تتهدّد لبنان وعن مستوى عجز المسؤولين السياسيين اللبنانيين عن المواجهة إنْ لم نقل كلاماً أقسى وأوضح، لكنها أظهرت من جهة أخرى صلابة ما لدى الشعب اللبناني ومناعة الفئات المستهدفة منه وقدرتها على المواجهة، اما الجيش والمقاومة فقد أكد كلّ منهما على الجهوزية والاستعداد للمواجهة وخوض أقسى المعارك ضدّ الإرهاب وبالقدرات المتاحة عن الاستعداد الكامل لتقديم أيّ حجم من التضحيات في سبيل الدفاع عن الذات والوطن.

ونعود للأصل، ونقول لم يكن مفاجئاً لنا أن يحصل ما حصل في القاع، ونحن كنا قد حذّرنا من وقوعه وبالتحليل والتعليل والشرح الذي يقتضيه الموقف، حذّرنا هنا وعلى هذه الصفحة بالذات منذ أقلّ من أربعة أسابيع تماماً مقالتنا في 2 6 2016 وكنا نتوقع إقدام الإرهابيين على أعمال مماثلة ضدّ لبنان بعد ما آل إليه أمرهم من انهيار في سورية، وما لمسوه من مواقف في لبنان بعد الانتخابات البلدية، مواقف فسّرها الإرهابيون بأنها رسائل إيجابية لهم تفتح لهم أبواب بعض الجزر اللبنانية لتشكل لهم بيئة حاضنة، خاصة في الشمال وطرابلس تحديداً، ما أحيا عندهم الأمل بإمكانية إحداث خرق من ​عرسال​ إلى طرابلس وامتلاك مرفأ على المتوسط.

والأخطر في ما حصل في القاع يكمن في مسألتين… الأولى تتصل بأسلوب الإرهابيين في تنفيذ جريمتهم في القاع والثانية في ردّ فعل بعض السياسيين في لبنان. ففي الأولى يبدو ومن خلال تكثيف استعمال الانتحاريين وعلى موجتين صباحية ومسائية، وبأربعة انتحاريين في كلّ موجة، ومن دون أن يكون هناك هدف معيّن يستهدفونه، بل بدا الأمر بمثابة انتحار استعراضي أو انتحار للموت فقط وليس للقتل والتدمير، ما جعل هذا التصرّف يشي بأنّ مَن خطط للجريمة كان يريد إفشاء الرعب العام في البلدة ليدفع سكانها للهجرة منها ويمكّن المسلحين إثر ذلك من وضع اليد على بلدة جاهزة للسكن تتخذ قاعدة انطلاق لعمليات أخرى في العمق اللبناني. وإذا تذكّرنا بأنّ سكان البلدة هم مسيحيون لبنانيون، وإذا استعدنا إلى الذاكرة الخطة الإرهابية في تهجير مسيحيي العراق وسورية نقف على هول المخاطر في هذا العمل.

أما الثانية فتتصل بسلوك سياسيين لبنانيين يشهد تاريخهم على علاقات لهم بالخارج وعلى إحداثهم مآسي بحق المسيحيين تحديداً. سلوك قادهم إلى استبعاد أن تكون القاع مستهدَفة والنظر إلى الجريمة على أساس أنّ المجرمين اتخذوا القاع محطة ومعبراً للانتقال إلى أماكن أخرى بعيدة عن القاع، رغم أن المعطيات والقرائن المتولّدة من طبيعة التنفيذ تقطع بخلاف ذلك، خاصة أنّ موجة المساء جاءت لتقطع الشك بالقين ولتؤكد أنّ القاع وليس سواها هي الهدف وكلّ كلام آخر يقود إلى القول بأنّ مطلقه هو أحد شخصين إما مصاب بالعمى السياسي والأمني، أو أنه مأجور مُكلّف بمهمة تسهيل نجاح خطة الإرهابيين.

وبعد هذا ننتقل إلى ما هو أدهى، ونناقش السلوك اللبناني لمواجهة المعضلة ودفع الخطر، ويذهلنا أو يصدمنا ما جاء من مواقف نسبت إلى مسؤولين من وزراء وشرائح سياسية لبنانية تقترح شيئاً أقلّ ما يُقال فيه إنه سطحي تافه لا يقدّم ولا يؤخّر ولا يدفع خطراً، والتمسك بمواقف رافضة للسلوك الذي يرى فيه العقلاء طريقاً جدياً ومنتجاً لدفع الخطر. وقبل أن نطرح رؤيتنا للمعالجة فإننا نُبدي عظيم استهجاننا من طرح تطبيق القرار 1701 على الحدود الشرقية، وكأن صاحب هذا الطرح مصابٌ بالعقم والعجز العقلي والعمى البصري الذي يمنعه من معرفة سبب 1701 ومهمة اليونيفيل في لبنان وفعالية اليونيفيل في مواجهة الإرهاب، وكأنه لا يعرف ما حلّ بالأندوف في سورية وما كان من أمر اعتداء الإرهابيين عليهم من دون أن يتمكنوا من تحريك ساكن. أما القول بأنصار الجيش أو استدعاء احتياط او الخ… من مواقف عنترية نظرية فإننا ومن خبرة وتجارب نقول إنّ كلّ هذا لا يجدي بل إنّ طريق المعالجة الصحيحة للمعضلة الأمنية في لبنان والناشئة عن الأزمة السورية تكمن في الإجراءات التالية:

1 ـ معالجة موضوع ​النزوح السوري​. إنّ مدخل المعالجة يكمن في البدء بضبط النزوح السوري في لبنان عبر خطين الأول إعادة من يمكن إعادته إلى سورية، وذلك بالتنسيق الجدي مع الحكومة السورية التي أبدت أكثر من مرة استعدادها للعمل والتعاون في هذا الملف، والثاني تنظيم وجود مَن لا تسمح الظروف بعودته ومنع تشكل تجمّعات ديمغرافية خارجة عن السلطة تنقلب إلى بؤر وبيئة حاضنة للإرهابيين. يجب ضبط النزوح بما يحفظ كرامة النازح ويؤمّن متطلبات العيش الكريم المعقول له من جهة، وما يحفظ الأمن اللبناني من جهة ثانية.

2 ـ قرار سياسي رسمي لبناني بتطهير منطقة عرسال القاع من الإرهابيين. لقد قامت المقاومة الإسلامية بعمل جبار في العام الماضي واستطاعت أن تطهّر الجرود اللبنانية من الطفيل إلى عرسال من الإرهابيين وأبعدت بذلك خطرهم عن البقاع الأوسط والعمق اللبناني، ولم تستكمل العملية في عرسال وشمالها لاعتبارات سياسية ومذهبية مؤسفة، والأخطر أنّ هذه الاعتبارات قائمة بسبب ارتهان فئات سياسية لبنانية لقرار المملكة السعودية التي تستثمر بالإرهاب وتريد الإبقاء على الإرهابيين في تلك المنطقة لإزعاج الحكومة السورية وإشغال المقاومة.

والآن وبعد أن ظهرت المخاطر وأحجامها، فإننا لا نرى مناص من أن يتخذ لبنان قراراً بالقيام بعملية عسكرية واسعة ينفذها الجيش اللبناني كمسؤول أساسي ومباشر، الأمر الذي يتطلب قراراً سياسياً أيضاً بعد تكليف الجيش اللبناني بالمهمة بإطلاق يده في التنفيذ دون مراعاة مصالح أحد، لأنّ المصلحة الأمنية اللبنانية تتقدّم على كلّ المصالح أو هكذا على الأقلّ يجب أن تكون.

3 ـ تنسيق عسكري لبناني سوري لتنفيذ عملية التطهير، بحيث يشارك في العملية كلّ من الجيش اللبناني والجيش العربي السوري والمقاومة، لأنّ الإرهابيين يتمركزون في جرود متصلة من لبنان إلى سورية ويمكنهم من خلال تمركزهم الحالي المناورة وتنفيذ الحركة الزئبقية بين لبنان وسورية بما يُخرجهم من دوائر الضغط والخطر، إنْ لم يكن العمل العسكري منسقاً بين لبنان وسورية.

إنّ ما نطرحه هو خطة متكاملة لمعالجة المشكلة الأمنية التي صنعها الإرهابيون للبنان، ولكن وللأسف لا نتوقع العمل بها بوجود سياسيين لبنانيين يصادرون القرار السياسي ويصرّون على تنفيذ أوامر السعودية التي امتهنت تدمير البلاد العربية من اليمن إلى البحرين فالعراق وسورية، ونخشى أن يكون لبنان أيضاً قد أدرجته السعودية في لائحة أهدافها التدميرية وأنها وبعد أن يئست حتى الآن من إقدام «إسرائيل» على شنّ حرب تدميرية على لبنان عادت إلى المنظومات الإرهابية التي تموّلها وتغذيها وأوكلت إليها المهمة.

ولذا نعود ونؤكد أنّ لبنان في عين الإرهاب وانّ المصلحة الوطنية تفرض القيام بتدابير غير عادية لحماية لبنان واللبنانيين، وهذا لا يتمّ إلا بقرار لبناني لا يراعي قبل أيّ شيء إلا المصلحة الوطنية. فإذا اتخذت الحكومة القرار هذا تحفظ شيئاً للحكم الرسمي من هيبة وفعالية وإنْ تقاعست، فإنني لا اعتقد أنّ الشعب سيتقاعس وكما انّ الشعب اللبناني اجترح المقاومة ضدّ إسرائيل وأجهز على احتلالها للجنوب، فإنّ الشعب اللبناني قادر على تجاوز الحكومة مجدّداً وتنظيم نفسه ومقاومته للإرهاب لحماية بيوته، وما حصل في القاع نموذج واعد في هذا المجال