قدر المسيحيّين في منطقة الشرق الأوسط التعرّض لحملات مُتتالية من الإضطهاد، بأوجه مختلفة وعلى مدار حقبات تاريخيّة مُتعاقبة. وفي التاريخ الحديث، تعرّض من تبقى من المسيحيّين في المنطقة العربيّة لموجة جديدة من العنف، بعد عُقود من التهميش السياسي والتضييق الديني، طالت خُصوصًا مسيحيّي العراق وسوريا(1). وبعد الهجوم الإرهابي المُركّز على بلدة ​القاع​ المسيحيّة في لبنان، والحديث عن معلومات أمنيّة مُتقاطعة لضرب أهداف في عمق المناطق ذات الأغلبيّة المسيحيّة، تخوّف الكثيرون من أن يكون "سيناريو" تهجير المسيحيّين من العراق وسوريا وغيرها من الدول العربيّة، قد وصل إلى لبنان. فهل فعلاً تُوجد محاولات لتهجير مسيحيّي لبنان، وهل يُمكن فعلاً أن يحصل هذا الأمر؟

لا شكّ أنّ عوامل عدّة لعبت ضُدّ مصالح المسيحيّين في لبنان منذ الإستقلال حتى اليوم، بحيث تأثّر المسيحيّون بالتغيّر السريع للعامل الديمغرافي مُقارنة بالمسلمين، إضافة إلى نزيف الهجرة الذي طالهم بقوّة خلال الحرب بين العامين 1975 و1990 هربًا من مآسي المعارك والإنقسامات، والذي تواصل في ربع القرن الأخير هربًا من الإضطهاد السياسي وبحثًا عن مُستقبل إقتصادي وإجتماعي أفضل. لكن وعلى الرغم من إنخفاض عدد المسيحيّين من نسبة 65 % قبل العام 1975، إلى أقلّ من 40 % حاليًا من إجمالي سُكّان لبنان البالغ عددهم حوالى 4,100,000 نسمة داخل لبنان(2)، فإنّ ما حصل مع مسيحيّي العراق وسوريا وغيرهم من مسيحيّي الشرق الأوسط والدول العربيّة، لن يتكرّر مع مسيحيّي لبنان لأسباب عدّة، يُمكن تلخيصها بالشكل التالي:

أوّلاً: إنّ مسيحيّي لبنان مُستعدّون لحمل السلاح وللقتال دفاعًا عن أنفسهم بكل شجاعة ومهما كانت الفوارق العدديّة واللوجستيّة مع مُضطهديهم، وهو ما حصل خلال الحرب اللبنانيّة التي ما كانت لتنتهي على حسابهم، لولا التوافق الثلاثي: الأميركي - السعودي - السوري والذي دفع ثمنه المسيحيّيون بفعل إنقسامهم خلال فترة قاتلة على مُستوى خلل توازنات الشرق الأوسط ككل مطلع تسعينات القرن الماضي. وشجاعة المسيحيّين وتفضيلهم القتال والمُواجهة على الفرار والخُضوع، ظهرت في العديد من المعارك خلال الحرب، وهي كادت أن تتكرّر في القاع بالأمس القريب، لو حاولت أيّ مجموعة إرهابيّة الدخول إلى البلدة. أكثر من ذلك، عكست الإتصالات الكثيفة التي أجريت بأبناء القاع من قبل العديد من الشُبّان والرجّال المسيحيّين من مختلف المناطق والإنتماءات، للسؤال عمّا إذا كانت هناك حاجة للتوجّه بالسلاح إلى البلدة الحدوديّة، الإحتقان الذي يعيشه مسيحيّو لبنان، وتوقهم إلى تفجيره ضُدّ أيّ مجموعات إرهابيّة قد تتجرّأ على مُحاولة تخويفهم.

ثانيًا: إنّ مسيحيّي لبنان لا يكتفون بإبداء بعض الإعتراضات الشكليّة على محاولات إضطهادهم السياسي المُتجدّد، كما يحصل في سوريا والعراق وحتى مصر وغيرها حيث يُعطون من قبل السلطة وزارة هنا ومنصبًا هناك من باب رفع العتب، بل هم يُطالبون بتشدّد هذه المرّة، بأن يكون تمثيلهم السياسي صحيحًا وعادلاً، إن على مستوى رئاسة الجمهورية اللبنانيّة، أو الحكومة، أو المجلس النيابي، أو إدارات الدولة، إلخ. وهذه المرّة أيضًا يتعاطى المسيحيّون بجدّية عالية إزاء محاولات تهميشهم وتحويلهم إلى طائفة بدرجة ثانية، كما في العديد من دول المنطقة التي تتعاطى مع الأقليّات، أكانت مسيحيّة أو غير مسيحيّة، باستعلاء واستخفاف.

ثالثًا: إنّ مسيحيّي لبنان يُمسكون بالكثير من المرافق الرئيسة في لبنان، على المُستوى الإقتصادي والمالي، من معامل ومصارف ومن مراكز تجارية، وعلى المُستوى الإستشفائي والتربوي، من مُستشفيات بسمعة مُمتازة ومن مدراس وجامعات نخبويّة، وعلى المستوى السياحي من فنادق ومطاعم ومجمّعات سياحيّة رائدة، إلخ. كما أنّ مسيحيّي لبنان مُتمسّكون بشعائرهم الدينيّة، وبتاريخهم العريق وبهويّتهم الثقافية والحضاريّة، ويرفضون التنازل عنها تحت أيّ إغراءات أو التخلّي عنها تحت أيّ تهديدات.

رابعًا: إنّ مسيحيّي لبنان متمسّكون بأرضهم وبهويّتهم، حتى أولئك الذين إضطرّوا إلى الهجرة إلى الخارج، حيث أنّ زيارات هؤلاء المُهاجرين المُوَقتين أو حتى الدائمين، إلى لبنان، دائمة ومُتكرّرة، وتحويل المُتمكّنين من بينهم، الأموال إلى أهاليهم وعائلاتهم، تُعتبر من البديهيّات، ورغبة الأثرياء من بين هؤلاء المُهاجرين بالتمسّك بالأرض تُترجم بشراء الأراضي والمنازل والعقارات.

في الخلاصة، نعم وبكل تأكيد تُوجد محاولات مُستجدّة لاضطهاد المسيحيّين سياسيًا في لبنان، بدءاً من بعض الداخل الذي يعمل على إضعاف وجودهم في السلطة والحكم والدولة ككل عبر التمسّك بقوانين إنتخابية جائرة وغير منصفة، وعبر وضع اليد على مناصب أمنيّة وسياسيّة وإداريّة كانت محسوبة في السابق على شخصيّات مسيحيّة، وعبر عدم الأخذ برأيهم في قضايا مصيريّة ووطنيّة أساسيّة، وعبر عدم الإهتمام بإنماء مناطق إنتشارهم الجغرافي بشكل عادل مقارنة بباقي المناطق، إلخ. ونعم وبكل تأكيد تُوجد محاولات مُستجدّة لإضطهاد المسيحيّين أمنيًا في لبنان، عبر إستفراد قراهم وبلداتهم الحدوديّة والمعزولة، وعبر تعميم أجواء الخوف والتوتّر على كامل مناطقهم، بهدف تسريب اليأس والإحباط إليهم، تمهيدًا لدفعهم إلى الهجرة من لبنان على غرار مسيحيّي العراق وسوريا وغيرها من الدول. لكنّ المسيحيّين في لبنان صمدوا على مرّ العُصور، ولم يكونوا يومًا لقمة سائغة أمام مُضطهديهم، والتاريخ الحديث أكّد أن لا مجال لنهوض لبنان والدولة اللبنانيّة من دون جناحه المسيحي الفاعل، وبالتأكيد إنّ حُفنة من إرهابيّي قوى الظلام وعصور الجهل والتخلّف لن تخيف لا مسيحيّي القاع ولا أيّ مسيحيّ في أي بقعة من لبنان، حيث أنّ المسيحيّين اللبنانيّين بمختلف مذاهبهم وتوجّهاتهم السياسيّة بالمرصاد لمُحاولات إضطهادهم الجديدة، فلا يُجرّبنا أحد!

(1)إستُهدفت الكنائس والقرى المسيحيّة في العراق إعتبارًا من العام 2003 بهجمات إرهابيّة غادرة، ما رفع من سرعة إنخفاض عدد المسيحيّين العراقيّين تدريجًا إعتبارًا من غزو الكويت في العام 1990 حتي اليوم، من 1,400,000 إلى نحو 400,000 ألف نسمة حاليًا، علمًا أنّ الرقم في تراجع مُستمرّ. والأمر نفسه حصل مع مسيحيّي سوريا الذين بعد أن هاجر قسم كبير منهم في العقود القليلة الماضية بحثًا عن مناخ مليء بالحريّة يشبههم، حتى جاءت الحرب في السنوات الخمس الماضية لتنال مِمّن تبقى منهم، فارتفعت الهجرة بوتيرة مُضطردة، وأصبح من اختار البقاء أو عجز عن الرحيل يعيش حياة مليئة بالقلق وبعيدًا عن الأضواء.

(2)يُضاف إليهم نحو 9 ملايين لبناني مُغترب أو مُتحدّر من لبنان مُوزّعين على دول العالم أجمع، خاصة على كندا وأستراليا والبرازيل.