ليست المرّة الأولى التي يتعرّض فيها لبنان لموجة تفجيرات إرهابية تتباين القراءات حولها كما الفرضيات والسيناريوهات، وأبعد من ذلك، التداعيات المحتملة. وليست المرّة الأولى التي لا يتّحد فيها لبنان، بكافة قواه ومكوّناته السياسية والشعبية، في مواجهة المؤامرة الإرهابية التي تستهدفه، فينقسم على نفسه.

ولكنّ شيئاً ما اختلف مع تفجيرات ​القاع​ الإرهابية، انطلاقاً من خصوصية المنطقة التي لم تُستهدَف في السابق، وبالتالي من الدلالات التي يحملها الاعتداء الإرهابي. لذلك، لم تكتفِ القوى السياسية ببيانات الاستنكار والإدانة الجاهزة، بل أعلنت الاستنفار العام، و"حجّت" بالجملة إلى القاع، في مشهدٍ "استعراضي" بدا حلقة جديدة في سلسلة "المزايدات" التي لا تنتهي...

خصوصية وأكثر...

قد يكون مفهومًا أن يشعر مسيحيو لبنان كما مسلموه بالخطر الوجودي مع استهداف ​بلدة القاع​ ذات الطابع المسيحي من قبل الإرهاب التكفيري، في ضوء ما تشهده المنطقة من أحداثٍ دموية، كان المسيحيون فيها "الحلقة الأضعف"، هم الذين هُجّروا من أراضيهم وقراهم في أكثر من مكان، ولا سيما في سوريا والعراق.

وقد يكون واقعيًا أن توقظ التفجيرات الانتحارية في بلدة القاع الهواجس القديمة الجديدة من مخططاتٍ ومؤامراتٍ ضدّ المسيحيين، وضدّ العيش المشترك في لبنان، الذي لطالما تغنّى به مسلمو لبنان قبل مسيحييه، باعتباره عملةً باتت نادرة الوجود في المنطقة، خصوصًا مع تمدّد "الدواعش" واضطهادهم للمسيحيين وغيرهم.

كلّ ذلك أكيدٌ ولا شكّ فيه، وقد وضعه الإرهابيون نصب أعينهم حينما قرّروا أن يضربوا ضربتهم في بلدة القاع، سواء كان ذلك بموجب خطة ألف أو خطة باء، كما يقدّر الكثيرون، فللبلدة البقاعية خصوصيّة يجدر أخذها بعين الاعتبار. ولكن، وانطلاقاً من هذه الخصوصية بالتحديد، تُطرَح علامات استفهامٍ بالجملة حول طريقة التعاطي مع هذه البلدة واختلافها ما قبل وبعد التفجير حتى من قبل القوى المسيحية، لدرجة أنّ البعض تساءل عمّا إذا كان لـ"المصيبة فوائد"، تتمثل في فتح البلدة أمام الدولة والقادة السياسيين، ربما للمرّة الأولى.

مزايداتٌ على مزايدات...

وكما "تزايد" القوى السياسية على نفسها في مختلف الأمور السياسية، من الاستحقاق الرئاسي المجمّد إلى الاستحقاقات التشريعية المعطّلة مروراً بقانون الانتخاب والحكومة السلامية وغيرها، تحوّلت القاع خلال اليومين الماضيين إلى "مسرح مزايدات" بكلّ ما للكلمة من معنى.

هكذا، لم يكتفِ قادة الأحزاب المسيحية هذه المرّة بالإطلالات الإعلامية المستنكرة والمتأسّفة، بل قرّروا النزول شخصياً إلى الميدان، فتوالى وصولهم إلى "أرض المعركة"، من رئيس "التيار الوطني الحر" ​جبران باسيل​ إلى رئيس حزب "الكتائب اللبنانية" ​سامي الجميل​، وبينهما قائد الجيش العماد ​جان قهوجي​ ووزير الدفاع ​سمير مقبل​ وكذلك وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​، ولكن فرادى لا جماعات، في مشهدٍ لم يبدُ مألوفاً، أو على الأقلّ لم تشهده مسارح الانفجارات السابقة سواء في عرسال أو في بعلبك أو في الضاحية الجنوبية لبيروت.

وإذا كانت "غلطة الحكيم بألف"، أي تلك التي ارتكبها رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، حين "تسرّع" بنأي نفسه عن المزايدات والقول أنّ القاع ليست مستهدَفة بل هي مجرّد "محطة" للإرهابيين، قبل أن يضطر للتراجع عن تصريحاته، فإنّ مظاهر "الأمن الذاتي" التي ارتضتها "القوات"، برعاية عضو كتلتها النائب أنطوان زهرا، أتت لتعوّض عليها تلك "السقطة"، وتُدخِلها بازار المزايدات، حتى لا تُترَك وحيدة.

كلّ يغنّي على ليلاه!

وبعيداً عن المزايدات المسيحية المسيحية، فإنّ استثمار العمل الإرهابي في المزايدات العامة كان أيضاً حاضراً، في مشهدٍ بات أصلاً مألوفاً مع كلّ حدثٍ يحصل، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، إذ تسارع مختلف القوى السياسية لتوظيفه لصالحها بلا أيّ تردّد.

ولعلّ عدم مسارعة الحكومة المسمّاة حكومة المصلحة الوطنية لعقد اجتماعٍ استثنائي لبحث تفجيرات القاع يؤكد هذا المنحى "غير الوطني"، وكأنّ المصلحة الوطنية لا تقتضي ذلك، حتى أن الاجتماع "العادي" الذي عقدته بعد ساعات أتى بغياب الوزيرين "الأمنيين"، أي وزيري الدفاع والداخلية، اللذين كانا يتفقدان، كلّ على حدة، المنطقة المستهدَفة.

وأبعد من الحكومة، وفي ظلّ عجز الدولة اللبنانية عن القيام بواجباتها بسبب الخطوط الحمراء التي توضع لمنع القيام بحملة عسكرية ضد المسلحين في الجرود، أتت تصريحات السياسيين لتزيد الطين بلّة، وتؤكد أنّ كلّاً منهم "يغنّي على ليلاه"، إذ إنّ كلّ فريق سياسي يريد أن يستثمر ما حصل من أجل تحقيق أهدافه أو وجهة نظره. وفي حين سارع البعض لمحاولة توظيف الحدث رئاسياً لصالح مرشحه للانتخابات، باعتبار أنّ ما حصل يمكن أن يعزّز من فرصه، ولو على جثث الشهداء، وجدها البعض الآخر فرصةً للتأكيد على السلة المتكاملة التي يروّج لها، وفي صدارتها قانون الانتخاب.

وعلى جري العادة، عاد السجال القديم الجديد عمّن جلب ويل التفجيرات الإرهابية إلى لبنان، مرّة أخرى في وقتٍ لم تكن دماء الشهداء قد جفّت. فسارعت بعض قوى الرابع عشر من آذار لتحميل "حزب الله" المسؤولية، باعتبار أنّه لو لم يتدخل في سوريا لما وصلت النيران السورية إلى لبنان، وحاول هؤلاء الإيحاء للمسيحيين بأنّ النار قد وصلتهم ولم تعد تحيّدهم، وصولاً إلى إعادة طرح مشروع نشر قوات دولية على الحدود اللبنانية السورية، في حين اعتمد بعض قوى الثامن من آذار خطاباً مضاداً أظهر الحزب على أنّه "المنقذ" الذي يدافع عن جميع اللبنانيين بقتاله للتكفيريين، والذي لولا قتاله واستنفاره لتحققت أحلام الإرهابيين وأصبحت "المجازر" طبقاً لبنانياً يومياً.

بلا دولة!

في الخلاصة، الأكيد أنّ الطبقة السياسية في لبنان لم ولن تتغيّر. لا الحراك المدني غيّرها في السابق، ولا الانتخابات البلدية ونتائجها الفاضحة غيّرتها بالأمس، ولا تفاقم المخاطر الإرهابية سيغيّرها اليوم، هي التي وبدلاً أن تتّحد في مواجهتها، اختارت أن "تستغلّها"، لعلّها تزيد رصيدها الشعبي هنا أو هناك.

والأكيد قبل هذا وذاك أنّ أهالي القاع سيعودون، مع انتهاء حفلات الاستعراض والاستثمار، ليواجهوا مصيرهم لوحدهم، بلا طنّة ورنّة، وبلا دولة بأتمّ معنى الكلمة!