حتمًا هي “دعابة” إسرائيلية إذا صدُق الترويج بأن ما حصل في ​الجولان​ يوم أمس يحمل رسائل إسرائيلية لحزب الله وللجيش السوري. لم تطل مدة “انتشاء” الإسرائيليين الذين حاولوا إقناع أنفسهم بأنهم أوجعوا “حارسي” منطقة البعث بضرب أحد مقارّهم الحكومية، وذلك بعد خروج الإعلام الحربي لحزب الله ليؤكد أن “جبهة النصرة” هي الفاعلة.

رغم مشهدية الاستنفار الحدودي الذي شهده لبنان في أعقاب إطلاق الصاروخين وشيوع خبر إصابة أحد مراكز الجيش السوري في القنيطرة، ورغم أن الإعلام الحربي لحزب الله قرر هو أن يردّ على بعض القنوات العربية المروّجة “لانتصارٍ” إسرائيلي جديد، بيد أن الحدث بقي سوريًا في منطقة محتلة وإن بدا مذيّلًا برسائل ضمنيّة لحزب الله الذي يناصر حليفه السوري في الميدان.

تضارب...

لم تفلح محاولات النائب وليد جنبلاط باعتبار جبهة النصرة تنظيمًا غير إرهابي، في ثني حزب الله عن وضعها في خندق واحد مع العدو الإسرائيلي. شأنها شأن “داعش” يتعامل معها الحزب سواء في الساحة السورية أم في الجرود العرسالية، ومع ذلك لا يؤثر الحزب نسبَ أيّ ضربةٍ من هذا القبيل الى إسرائيل بما قد يُعدّ انتصارًا جزئيًا لها غداة خطاب رئيس الوزراء المتوعّد بنيامين نتنياهو، من هنا كان التضارب. الوكالات الأجنبية تنقل عن المرصد السوري لحقوق الإنسان تأكيده أن انفجارين وقعا بالقرب من مرتفعات الجولان كانا بسبب ضربة جوية إسرائيلية، وحزب الله يؤكد أن الانفجارين هما عبارة عن صاروخين أطلقهما متشددون على صلة بتنظيم القاعدة. لتذهب “جبهة ثوار سورية” المدعومة من الغرب أبعد من هاتين الفرضيّتين مشيرةً الى أن “المعلومات تفيد بأن الهجوم استهدف موقعًا لحزب الله”.

تزامناتٌ جوهرية

في حمأة هذا التناقض “التكتيكي” في المعلومات، يبقى الأكيد أن هذه الحادثة تتزامن مع جملة عناصر يمكن أن تعكس في تضافرها مؤشّراتٍ لا الى الجهة الفاعلة بل الى الرسائل التي تحملها والتي أجهضها الجيش السوري في ما بعد بتدميره آلية لجبهة النصرة أطلِق منها الصاروخان: أوّلًا، للموقع رمزيّته المطلقة في منطقةٍ تحتلها إسرائيل، وبالتالي فإن أي ضربةٍ للجيش السوري من قبل متشددين يعني خرقًا للأمن الإسرائيلي الذي من المفترض أنه يفرض سيطرته في تلك البقعة خصوصًا عقب إعلان نتنياهو وللمرة الأولى في نيسان المنصرم في أحد الاجتماعات الحكومية أن الانسحاب من الهضبة ليس واردًا على الإطلاق. ثانيًا، تأتي الضربة غداة خطابٍ ضعيف لنتنياهو أضحك أبناء الضاحية وعكس خشية إسرائيلية أكثر منها قوّة وصلابة، خصوصًا أنه ألمح الى تلك الجبهة بتأكيده أن إسرائيل لن تقبل بأن تفتح إيران جبهة ضدها في الجولان. ثالثًا، لا يتردد معارضون سوريون في الآونة الأخيرة في الحديث عن نشاطٍ زائدٍ لحزب الله في المنطقة المقصوفة، وهو ما قد يحمل في طياته تمهيدًا ضمنيًا لأي ضربةٍ مرتقبة كتلك التي وقعت أمس ولم تستهدف حزب الله أصلًا. رابعًا، أكد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قبل ساعاتٍ من حادثة الجولان أن الطائفية لم تأتِ إلى المنطقة إلا مع الخميني وهو جسّدها في حزب الله”.

مجرّد ضجّة!

كثيرًا ما يحبّ العدو إحداث الضجّة. ما إن تقترب النار من مناطق تواجده حتى يطلق العنان لطائراته الحربية التي يُمتعها اختراق الأجواء اللبنانية وهو ما حدث أمس في أعقاب الحديث عن توتّر في الجولان. اللافت في الأمر، أن الإعلام الإسرائيلي غرّد خارج سرب كلّ المعلومات في ساعات الصبيحة الأولى بإشارته الى “تعرض نقطة عسكرية إسرائيلية في المطلة على الحدود اللبنانية الفلسطينية لإطلاق نار مصدره الجانب اللبناني، حيث استهدف برجًا عسكريًا للجيش ال​اسرائيل​ي، من دون وقوع إصابات”. وهو ما استدعى استنفارًا “لليونيفيل” وإطلاق تحقيقاتٍ لم تُثمر. علمًا أن مثل هذه الخضّة “الافتراضية” تأتي غداة تسليم قائد “اليونيفيل” الإيطالي المغادر لوتشيانو بورتولانو شعلة “القبعات الزرق” الى خلفه الإيرلندي مايكل بييري.

تصويب البوصلة

ليست إسرائيل غائبة عن السمع، لا بل هي تستمتع بإشاحة حزب الله جزئيًا نظره عنها وتركيزه على الخطر التكفيري الداهم الذي يطرق أبواب البلاد في غير مناسبة. يخطئ الإسرائيليون مجدًدا في هذا الظن ويعوّلون كثيرًا على كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي لا يترك مناسبةً إلا ويعيد فيها البوصلة الى وجهتها الصحيحة والأولى وهي إسرائيل، قاطعًا الطريق على كلّ مزايدٍ أو معيّر أو مرتقٍ بنظرية تبدّل العدو وسقوط ذريعة “السلاح”. لا يخفي الإسرائيليون هلعهم من مثل هذا الكلام، وخير دليل على ذلك أن وسائل إعلامهم تشهد في الأصبحة التالية لأي خطابٍ من نصرالله على حجم الخشية المزروعة في النفوس والبيوت. تلك الحرب النفسية يتلقفها نتنياهو ما استطاع عبثًا، راميًا بوابل من التهديد والوعيد وآخرها منذ ساعاتٍ في الذكرى العاشرة لحرب تموز حيث أكد أننا “سنردّ على حزب الله بقبضة من حديد في حال مهاجمتنا”. عودةٌ بسيطة الى الوراء تظهر دراماتيكية تراجع وتيرة التصعيد الإسرائيلي بعدما كان الحديث عن حربٍ مقبلة على لبنان في أوجه، ليتحوّل اليوم الى مجرّد ردٍّ على حزب الله في حال (مع التركيز على عبارة “في حال”) هاجمها، وهو ما يعيه حزب الله خير وعي ويبدو أذكى من أن “يحركش” في وكر دبابير، مع أنه بات يمتلك كلّ الإمكانيات المتطوّرة لدحر العدو مجدّدًا وهذه المرّة بترسانةٍ ليس أفضل ما فيها “الكورنيت” والـ “أس إي 22” والـ”ياخونت”. هي نفسها تلك الترسانة التي ظنها نتنياهو عصيّة على حزب الله وخنادقه ليُفاجأ بالعكس، لا سيما أنه لم يعد خافيًا على أحد أن الحزب لا يوفّر فرصة لتعزيز قدراته العسكرية والدفاعية تمهيدًا لتكريس معادلة الردع المتوازن، وهو ما اعترف به اسحاق هرتسوغ رئيس المعارضة الإسرائيلية أمام الكنيست أخيرًا. وسبقه اليه رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي يائير غولان في إشارته الى أن “إسرائيل رصدت تطوير الحزب لترسانة أسلحته وأن لديه حاليًا أكثر من 100 ألف صاروخ”. وفي دلالةٍ إضافية على “تقزُّم” الخطاب التوعّدي الإسرائيلي، تكفي المقارنة بين خطاب نتنياهو الباهت عسكريًا في مناسبةٍ بحجم الذكرى العاشرة للحرب، وكلام غولان أواخر نيسان الفائت والذي حمل تحذيرًا شديد اللهجة لحزب الله من أن أيّ حرب مستقبلية بينهما ستكون مدمرة.

لا ينامون مطمئنين

إذًا، لا ينام الإسرائيليون مطمئنين حتى لو كان حزب الله ملهيًا في سورية، وهم يعتقدون بأن هذه الجبهات السورية تزيده قوّةً وخبرةً وتمكّنه من مجابهة أخطر الأعداء. ومع ذلك، وحفاظًا على ماء الوجه أمام شعبٍ تدفعه خرطوشة صيد الى الاختباء في الملاجئ أيامًا، لا بدّ من استكمال فصول التهديد النظرية والتحركات الميدانية التي يُمكِن أن تُنسَب الى إسرائيل وما هي منفذتها.