تدرك تماماً كلّ القوى السياسية أنّ قانون الإنتخابات في ظلّ نظامنا البرلماني هو المفتاح الاساس للوصول الى السلطة والتحكم بها. فمجلس النواب الذي ينتخب رئيس الجمهورية وتتشكل الحكومات استناداً الى رأيه الملزم في إختيار رئيس الحكومة ثمّ في منح الثقة الى تشكيلته الحكومية، إنما ينتج أولاً وأخيراً وفق قواعد ومعايير حدّدها قانون الإنتخابات. من هنا نفهم سبب عجز الطبقة السياسية في إنتاج قانون جديد للإنتخابات ننقل لبنان بواسطته من حال الديموقراطية الشكلية الى ديمقراطية فعليّة.

نعم، نحن في لبنان نعيش حال «الديموقراطية الصوريّة» لا غير! فالديموقراطية بطبيعتها تختلف عن «الصنادقيّة» التي تفترض التوجّه في فترات دوريّة الى صناديق الإقتراع لاختيار ممثلي الشعب، وإن كنا كلبنانيين قد حرمنا حتى من هذه الممارسة «الديموقراطية البدائية» لأسباب واهية، بل الديمقراطية تعني وبكلّ بساطة أنّ الشعب هو فعلياً مصدر السلطات وصاحب السيادة.

إنّ الوسيلة الديموقراطية الوحيدة لكي يعبّر الشعب عن آرائه وتوجهاته السياسية في شتى المجالات هي الإنتخابات. من هنا، فإنّ وظيفة قانون الإنتخابات تنحصر في عكس الإرادة الشعبية التي أفرزتها الإنتخابات وإظهارها في صورة المجلس النيابي الذي تشكل على أثرها.

أما الواقع فمختلف تماماً! فإذا ما أخذنا مثلاً النتائج العامة للإنتخابات النيابية التي جرت العام 2009 نجد أنّ الأكثرية الشعبيّة بمكان في حين أنّ الأكثريّة البرلمانية بمكان أخر. فكيف يمكن لأقلية شعبيّة أن تصبح أكثرية داخل مجلس النواب؟

الجواب نجده في قانون الإنتخابات الحالي الذي إعتمد فيه أولاً النظام الأكثري مع الصوت الجمعي، وثانياً تمّ تقطيع الدوائر بشكل غير علمي لتأمين أكثرية نيابية غير مستحقة للجهة المذكورة. ومن هنا يصبح واضحاً هذا الإستشراس لدى البعض في محاربة النظام النسبي والذي بطبيعته يشكل ضمانة للأقليات القائم عليها لبنان. ويصبح مفهوماً حينها الدفاع عن النظام الأكثري الجائر حفاظاً على المصلحة الحزبية في وجه النسبية التي تؤمّن عدالة وطنيّة.

لنقل الأشياء كما هي، فلبنان دولة طائفية بإمتياز! وقد أُقرّت كلّ القوانين الانتخابية منذ قيام الجمهورية اللبنانية ولغاية اليوم بحقوق الطوائف بالتمثيل في المجالس المتعاقبة ورسّخت هذه القوانين مبدأين هما: اعتماد التمثيل الطائفي السياسي باعتباره قاعدة للتمثيل في المجلس النيابي وتخصيص مقاعد نيابية ثابتة وحصريّة للطوائف.

وبعد أن كانت نسبة الكوتا الطائفيّة المعتمدة في توزيع المقاعد النيابيّة هي 6 للمسيحيين و5 للمسلمين، جاء إتفاق الطائف ليكرّس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. إلّا أنّ المناصفة بقيت شكلية بوجود نظام إنتخابي أكثري يعتمد الصوت الجمعي في ظلّ فائض عددي إسلامي تبرز قوته ضمن دوائر إنتخابيّة مفصّلة على قياس بعض القوى السياسيّة لتضمن فوزها، في خروج واضح عن هدف قانون الإنتخابات القائم، على عكس الإرادة الشعبية وتحقيق صحّة التمثيل.

من هنا، كان السؤال حول مدى احترام الميثاقيّة التي نشأت عليها الجمهوريّة اللبنانية والتي عادت وكرّرتها وثيقة الوفاق الوطني. فإذا كان النواب المسيحيون بأكثريتهم يُستولدون في كنف الطوائف الإسلامية فأين هؤلاء من هواجس طوائفهم؟ وهل يمكن اعتبارهم فعلاً ممثلين لهذه الطوائف أم مجرد بدلاء يعملون على تأمين مصالح رؤساء كتلهم النيابيّة ممَّن أوصلوهم الى الندوة البرلمانيّة؟ من هنا يصبح الكلام عن الإحباط المسيحي محقاً ومفهوماً!

لن نصل يوماً الى دولة ديمقراطية يكون فيها اللبناني مواطناً محترماً في بلده، ما دامت الطبقة السياسية الحالية تجدّد نفسها عند كلّ إستحقاق إنتخابي مستندةً في ذالك الى قانون إنتخابي جائر. ولا يمكن القول إننا نعيش في دولة ديموقراطية ما دام الإلتفاف على الإرادة الشعبية أساسه قانون إنتخاب يشكل الهمّ الأوّل لمهندسيه كيفية تأمين أكثرية نيابية زائفة في مجلس النواب للبقاء في السلطة والإستئثار فيها.

لدينا فرصة تاريخية اليوم للخروج من ديموقراطيتنا الشكليّة وبناء دولة ركيزتها قانون إنتخابي عادل يحقق الديمقراطية الفعليّة. ولتحقيق هذه الغاية، نجد أنفسنا أمام وجهين للعدالة الإنتخابيّة يجب إنتقاء أحدهما فنختار إما العدالة الطائفية أو العدالة الوطنيّة.

فإما يخرج المجتمع اللبناني من خلال قانون الإنتخابات من طائفيته القاتلة نحو الوطنيّة الشاملة يشكل فيها لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة يتساوى فيها جميع اللبنانيين في إنتاج ممثليهم أو لنتوجّه نحو إنتاج الطوائف لممثليهم حصراً من دون تأثير الطوائف على بعضها إنتخابيّاً، وفي كلتا الحالين نكون قد حققنا العدالة الإنتخابيّة، فنكون قد حققنا عدالة وطنيّة محبّبة أو عدالة طائفيّة ضرورية، وفي مطلق الأحوال نكون قد خرجنا من ديموقراطيتنا المزيّفة.

• نائب بلاد جبيل