في محاولة الانقلاب الفاشلة انتصر جيش اردوغان على جيش اتاتورك، وفي كلا «الجيشين» ما يكفي من عسكريين ومدنيين. نجح الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في كسب ولاء أبرز قادة الجيش في دولة يتحكّم بمفاصل القرار فيها جراء عمل مبرمج ودؤوب منذ وصوله إلى الحكم في 2002.

في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتراجع الصراع الايديولوجي بين يمين موالٍ للغرب بقيادة الولايات المتحدة ويسار موالٍ للاتحاد السوفياتي، لم يعد للانقلاب العسكري دور حاسم لجهة التأثير المباشر في موازين القوى الدولية، وفي تركيا تحديدا، حيث تتشابك المسائل الخلافية داخل البلاد وخارجها. تركيا اليوم، وعلى رغم انها دولة اطلسية اساسية في المنطقة، فهي ليست بالمكانة التي كانت عليها في زمن الحرب الباردة وبعد الثورة الايرانية، ولا هي حليفة موثوقة للاتحاد الاوروبي او جارة محايدة في صراعات المنطقة. علاقات تركيا مأزومة مع الاطراف جميعها، فهي متوترة مع اميركا، وفي قطيعة مع مصر، وكادت ان تشعل حربا مع روسيا، كما ان البلاد معبر رئيسي للتنظيمات التكفيرية الى سوريا وللاّجئين الى اوروبا.

انقلاب تركيا يُشغل بال العالم العربي في المرحلة الراهنة، خلافا للانقلابات السابقة عندما كانت تركيا منقطعة عن العالم العربي والاسلامي. الانقلاب لا يشبه الانقلابات العسكرية التي سادت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولا الانقلابات المعاصرة، المتراجعة حتى في اكثر الدول هشاشة. انه انقلاب «فشة خلق» متأخرة في زمن تشتّت موازين القوى الاقليمية والدولية بمواجهة حالة أوجدها اردوغان، ركيزتها مناهضة العلمانية والعسكر. ولم يبقَ من ثوابت السياسة التركية المعهودة سوى الموقف العدائي من الاكراد.

السؤال المحوري: هل ان فشل الانقلاب يعود الى خلل في التخطيط وتردّد في الأداء، أم ان تركيا تبدّلت وباتت حصنا منيعا بوجه العسكر؟ من الصعب الجزم في اي من الاتجاهين وتفاصيل الحدث لا تزال غير مكتملة. الا ان البلاد في كل اطيافها لم تعد في قبضة العسكر. في مراحل سابقة، كان بإمكان الجيش التركي تنفيذ انقلاب بالتهديد، اي برفع العصا عبر مذكرة انذار، مثلما فعل في 1991 و1997. التلويح بتحرك الجيش كان كافيا لازاحة السلطة السياسية. كما ان القيادة العسكرية في مرحلة ما قبل اردوغان كانت مستقلة عن القيادة السياسية في نشأتها ونفوذها وقدراتها.

الشعب يريد اسقاط حكم العسكر، وان كان بعضه غير القليل لا يمانع في اسقاط النظام الحاكم. ديموقراطية مكبّلة على قياس الحاكم بدت افضل من حكم العسكر المجرّب بنظر الرأي العام التركي. هذا الوضع الملتبس هو نتاج التحولات التي احدثها اردوغان داخليا وفي السياسة الخارجية. الخط البياني لمشروع الرئيس التركي واضح: سلطة حكم الى اقصى حدود الممكن وهوية الدولة، والمسألتان متلازمتان. وفي المعركتين، الجيش هو الخصم الطبيعي، والعلمانية، المرادفة للهوية الوطنية التي ارساها اتاتورك، تشكل الحصن الآخير بوجه التوجهات الاسلامية للرئيس والحزب الحاكم بأمره.

التحدي الاكبر في تركيا ما بعد الانقلاب مفتاحه اردوغان الرئيس واردوغان الحاكم بعد افشال الانقلاب. منذ تسلمه السلطة، لم يهادن الرئيس التركي الخصوم والحلفاء على حد سواء. سلك طريق الانتخاب والدستور بهدف تعديله متسلحا بتأييد شعبي لا يُستهان به. لم ينقلب على النظام دفعة واحدة، بل اعتمد انقلاب «الخطوة خطوة»، معزّزا سلطاته وسلطانه.

الحقبة الاردوغانية، وهي نقيض الاتاتوركية، بدأت. ولن يكون مستغربا بعد الانقلاب ان يصبح اردوغان اكثر بأسا وسطوة للتخلّص من مناوئيه، الفعليين والمفترضين. حملة التطهير انطلقت بزخم الحدث الانقلابي وطاولت القوات المسلحة لاسباب معروفة، والقضاء والادارة العامة والجامعات وسواها للتحكّم الكامل بكل مفاصل السلطة. انها عملية تدجين متواصلة لمرحلة جديدة في ادارة شؤون الحكم. وقد تكون المرونة التي ابداها اخيرا اردوغان في السياسة الخارجية مدخلا لمزيد من التشدّد في الداخل.

تركيا على مفترق طرق صعب. الدولة نَجَت من العسكرة الكاملة، الا ان التسلط لن يستكين. وعندما تتقاطع معركة السلطة مع معركة الهوية يصبح الصدام مكلفا والانقلاب سلوكا «مشروعا» لصون الاستقرار والشرعية، وباسم الشعب دائما. تركيا بعد الانقلاب تتأرجح بين ديموقراطية ممسوكة واستبداد غير متماسك، وهي اسيرة مرحلة ما بعد الانقلابين: انقلاب مدني سيئ منذ سنوات وآخر عسكري اسوأ منذ ايام.