لم ينقطع بعد حبلُ القراءات للمشهد التركي الجديد الذي نجم من الانقلاب العسكري الفاشل الأخير، وتتلاقى كلّ هذه القراءات على أنّ العالم بات أمام تركيا جديدة، ما يجعل كثيراً من ملفات المنطقة مؤجَّلة المعالجة الى ما بعد تبلور خيارات هذه التركيا الجديدة، وربما الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّرة مطلع تشرين الثاني المقبل.

إحدى القراءات المتداوَلة في بعض الأوساط السياسية المتابعة لشؤون تركيا والمنطقة، تقول إنه على الخيارات الجديدة التي سيتّخذها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قابل الأيام والأسابيع على وقع ما يتّخذه حالياً من إجراءاتٍ ضدّ الانقلابيين وجميع المناوئين له، لا بدّ من أن تُحدِث عملية خلط أوراق واسعة النطاق على مستوى أزمات المنطقة، وكذلك على مستوى القوى الإقليمية والدولية المتعاطية مع هذه الأزمات.

وفي هذه القراءة إنّ المنطقة والعالم هما الآن أمام تركيا جديدة حدثت فيها عمليةُ خلط أوراقٍ هائلة جعلت المعطيات الداخلية فيها تشير الى أنّ الدولة التركية تسير في اتجاه انقسامٍ عامودي على كلّ المستويات في السياسة والعسكر وغيرهما ويواجهها أردوغان وفق مقولة «يا قاتل يا مقتول»، إذ إنه يتصرّف كأسد جريح، وهو ينتظر لقاءه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطلع آب المقبل ليبني على الشيء مقتضاه في ما يخصّ سياسيته الداخلية والخارجية.

وهذا اللقاء سيكون من جانب الروس وتالياً الإيرانيين أولى عمليات سبر غور أردوغان الجديد المدمى والمصاب بالكدمات نتيجة الانقلاب الأخير، إذ سيُعرف من خلاله ما بقي لدى الرجل من «لياقته» السورية، وهل هو مستعدّ لفتح بازار تنازلاتٍ وأخذ وعطاء في حال وقف الروس والإيرانيون الى جانبه لتثبيت دعائم حكمه التي إهتزت بعد الانقلاب.

فالروس سلّفوه مسبقاً بالمعلومات التي حصلوا عليها قبيل حصول الانقلاب من الداخل التركي وكذلك من خلال قمرهم الصناعي الذي يرابض في الفضاء الى جانب أقمار أُخرى فوق قاعدة انجرليك التي هي ليست قاعدة عسكرية فقط، بل هي قاعدة نووية أميركية لوجود عشرات من الأسلحة النووية الخفية وهي شأنها شأن كلّ القواعد النووية التي تخضع لرقابة الأقمار الصناعية الدائمة الأميركية والروسية وغيرها، إذ إنّ الروس اشتبهوا بحركة غير طبيعية داخل هذه القاعدة وزوّدوا أردوغان ببنك معلومات مكّنه من مغادرة الفندق الذي كان يقيم فيه في مرمريس (مرمرة) قبل قليل من وصول الانقلابيين اليه.

وترى هذه القراءة لمشهد التركي الجديد أنّ أردوغان يقف الآن في نطاق الدولة، الى جانب معركته السياسة والعسكرية المستمرة ضدّ الأكراد، أمام معركة كبيرة مع الجيش، وكذلك مع العلمانيين، لأنّ معركته مع مناوئه فتح الله غولن ومؤيّده تكاد تكون ضمن المؤسسة الدينية.

علماً أنّ أردوغان بإتهامه غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية بتدبير الانقلاب الأخير، إنما يتّهم الأميركيين بهذا الانقلاب إتهاماً غير مباشر، وهؤلاء الأميركيون يقفون الى جانب الأكراد في هذه المعارك التي يخوضونها ضده في كلّ مكان داخل تركيا وخارجها.

ولذلك وحسب القراءة نفسها، فإنّ أردوغان يدرك أنّ احداً لا يمكنه تحييد الأكراد المدعومين أميركيا في المعركة ضده سوى تفاهمه مع روسيا وإيران والعراق وسوريا، ما قد يجعله أمام خيار تقديم تنازلاتٍ في الشأن السوري الذي يعرف الجميع مدى تأثيره فيه والذي أطال الأزمة السورية ولا يزال.

وفي انتظار أن يحسم أردوغان خياراته في ضوء محادثاته مع الروس والإيرانيين فإنّ مضاعفات الانقلاب في تركيا ستستمرّ في التفاعل داخلياً وخارجياً، في ظلّ اقتناع لدى كثيرين بأنّ أردوغان خرج من الانقلاب مدمى، وسيكون مستقبَلاً غير أردوغان ما قبل هذا الانقلاب من حيث الخيارات والتوجّهات على المستويين التركي والاقليمي.