تضع «داعش» نصب عينيها أن «تستقلّ» بموقعين في لبنان: عرسال وعين الحلوة. والقاسم المشترك بينهما هو النازحون. الأولى «عاصمة النازحين السوريين» في لبنان، والثانية «عاصمة الشتات في العالم» وعاصمة النازحين الفلسطينيين في لبنان. إذاً، معضلة لبنان الأساس هي: كيف يتعاطى مع ملف النازحين، السوريين والفلسطينيين، والباقي تفاصيل...

على رغم المعلومات التي تتلقاها الأجهزة الأمنية عن حراكٍ مشبوهٍ للجماعات والتنظيمات الإرهابية في عين الحلوة، فإنّ الخلايا الإرهابية مطمئنّة إلى أنّ الجيش اللبناني لن يخرق «حرمة» المخيم. ولذلك، سيُتاح لها النموّ والتمدُّد.

وفي الموازاة، بدأت «داعش» خطة لفرض السيطرة على بقعة عرسال- القاع- رأس بعلبك. والضربات الانتحارية في القاع ربما كانت العلامات الأولى لهذه الخطة. ويبدو أنّ التركيز ينصبّ حالياً على عرسال، لأنّ السيطرة عليها هي الأسهل. لماذا؟

اليوم، لم تعُد عرسال لبنانية 100 في المئة. ويحاول أهلها الباقون فيها تدارك الانزلاق إلى الأسوأ، لكنّ ذلك ليس مضموناً. فالدولة التي سمحت بفلتان النزوح السوري إليها ليست لديها «الجهوزية السياسية» التي تسمح باسترداد البلدة: لا بإعادة التوازن الديموغرافي الذي انكسر بقوة لمصلحة السوريين ولا بحماية الناس من التهديدات والتصفيات الموعودة.

وفي الأساس، يقارب سكان عرسال الـ40 ألفاً. ولكن، مع الخوف الذي رافق تدفّق النازحين السوريين بلا ضوابط، ومع نشاط التنظيمات المتطرّفة والإرهابية، وبعد صدام الجيش مع «داعش» و«النصرة» في آب 2014، غادر ما يقارب ربع السكان خوفاً. فأصبحت البلدة تضمّ قرابة الـ120 ألف نسمة، بينهم 90 ألف نازح سوري.

ومشكلة البلدة أنها مفتوحة على الحدود السورية ومعزولة جغرافياً عن بقية المناطق اللبنانية. وبتأثير واقعها السنّي وظروف الصراع المذهبي في سوريا، باتت البلدة أكثر انعزالاً عن محيطها اللبناني، الشيعي إجمالاً، وتالياً أكثر انعزالاً عن بقية المناطق اللبنانية.

واعتقد البعض أن إجراء الانتخابات البلدية في عرسال سيكون متعذّراً، لكنها تمت على ما يرام، وعبَّرت عن نقمة الأهالي من واقع الارتهان وعن رغبة في العودة إلى التلاحم مع النسيج اللبناني. وجاء المجلس البلدي الجديد إلى قيادة الجيش يعلن الولاء المطلق له، ويوجّه إليه الدعوة للإمساك بزمام الأمور، أي لإنقاذ البلدة من واقعها.

وهذا ما يعني قيام الجيش بمداهمة مخيمات النازحين وتوسيع رقعة تمركزه. واعتبر ذوو الأمر الواقع أنّ ما قام به المجلس الجديد والمخاتير هو «خيانة» لهم! لذلك، ظهرت لائحة التصفيات التي بدأت طلائعها بمحاولة اغتيال المختار محمد علولة.

والسؤال هو: بأيّ شكل ستستجيب السلطة اللبنانية لنداءات أبناء عرسال؟ هل بمواجهة عسكرية مكلفة؟ وهل يمكن أن تحظى أيّ عملية للجيش في البلدة ومحيطها وجرودها بالتوافق السياسي أم سيكون ذلك موضعَ انقسامٍ سياسي ومذهبي؟

وماذا لو فرضت «داعش» المعركة بإطلاق سلسلة التصفيات التي جرى كشفها، والتي يبدو اسم رئيس البلدية المنفتح باسل الحجيري في طليعتها؟ وهو نفسه عبّر عن مخاوف واضحة. وهل ستتمكن القوى الرسمية من تقديم الدعم لأهالي بلدة لبنانية تطلب الإنقاذ، وبأيّ وسيلة، أم هي ستسحب يدها وتترك الأهالي وحدهم، أسرى في أيدي الجماعات المتطرّفة والإرهابية؟

والتدابير التي بدأتها بلدية عرسال بمنع تجوال السوريين ليلاً في البلدة ربما تؤدي إلى مزيد من الاحتقان بين الأهالي والنازحين تجد فيه «داعش» مادة استغلال مثالية. وإذا كان قرارٌ من هذا النوع يثير أزمة في بلديات من جبل لبنان لا تعاني أيّ أوضاع استثنائية، فكيف سيكون التنفيذ في بلدة الـ90 ألف نازح؟

تلتقي هذه الهواجس مع المعلومات التي تتبلّغها الأجهزة الأمنية عن محاولات تقوم بها «داعش» للتسلّح وتحريك الخلايا في الشمال، وطرابلس خصوصاً، مع أنّ التنظيم يدرك أنّ احتلاله مناطق لبنانية محرَّمٌ دولياً، وأنّ الأميركيين والأوروبيين يضعون كلّ ثقلهم إلى جانب الجيش لمنع اختراق هذا التنظيم خطوط المواجهة في البقاع الشمالي.

ويستحيل على «داعش» أن تكسر المعادلة العسكرية القائمة هناك، وأن تتمدَّد من الحدود السورية إلى داخل عرسال والقاع والقرى المحيطة إلى شمال لبنان فالمتوسط. وربما تفرض أيّ محاولة من هذا النوع تدخّلاً جوّياً تنفّذه القوى الحليفة العاملة ضدّ «داعش» في سوريا. لكنّ «داعش» قادرة على اللعب بالأمن من خلال السيطرة على جيوب في مناطق لبنانية مختلفة.

وهكذا يمكن استنتاج ما يأتي: إنّ المواجهة القائمة في لبنان اليوم، مع تنظيم «داعش»، هي مواجهة مستوردة من سوريا، بل هي مواجهة لبنانية- سورية داهمة في أحد وجوهها! وقد تؤدّي هذه المواجهة إلى إيقاظ المواجهة التي كانت متأجّجة في بعض المراحل بين اللبنانيين والفلسطينيين، إذا ما تمكنت من اتخاذ مخيم عين الحلوة أسيراً لها.

وفي المواجهتين، اللبنانية- السورية واللبنانية- الفلسطينية، سيتمّ استخدام ورقة النازحين، أو «حصان طروادة»، فتأتي النتائج كارثية. ولذلك، لا يبدو ممكناً علاج ملف الإرهاب في لبنان من دون إقرار سياسة واضحة وحازمة، لا خبث فيها، في ملف النازحين السوريين والفلسطينيين، وقبل فوات الأوان.