هي نفسُها تلك الجامعة العربية التي صنّفت حزب الله في شهر آذار الماضي كمنظمة إرهابية على وقع تحفُّظ لبنان -وقبلها قراران مماثلان لوزراء الداخلية العرب ودول مجلس التعاون الخليجي- التأمت أمس في غير زمان ومكان لتُمعِن في إحراج لبنان. الفارق هذه المرّة لا يتعدّى كونه وجهًا تبدّل من وزير الخارجية والمغتربين وقبله وزير الداخلية والبلديات، الى رئيس الحكومة تمام سلام شخصيًا والذي تتضاعف معه جرعة الإحراج متى عرّج الحديث الى الإرهاب ومتفرّعاته في المنطقة.

متسلّحًا بهدوءٍ وحكمةٍ كبيرين توجّه الرجل الى نواكشوط العاصمة الموريتانية ليكرّر على مسامع القادة العرب معضلات لبنان وعلى رأسها بلا منازع أزمة النازحين السوريين وتبعاتها على البلاد أمنيًا واقتصاديًا وحتى سياسيًا.

تبديد الهواجس

صحيحٌ أنه لم يعد لدى سلام في الداخل ما يخسره وهو المتخبّط على رأس حكومةٍ شبه قائمة فيما يعتري التعطيل كلّ مفاصل جسدها، بيد أنه لم يألُ على نفسه أخذ الاهتمام في اتجاه لا يورّطه مع شريكٍ أساسيٍّ في الداخل وهو حزب الله. أراد الرجل ببساطةٍ أن يبدّد هواجس التوطين التي لا تنفكّ تدقّ أبواب اللبنانيين من خلال طرحٍ قائمٍ على إنشاء مناطق إقامة للنازحين داخل الأراضي السورية. تماهى سلام مع الموقف “شبه العام” من المعاناة الملقاة على منكبَي لبنان جراء نزوح أكثر من مليونين ونصف مليون سوري الى دياره، وهو الرقم الذي أقرّ به سلام على مسامع العرب في القمّة الباهتة، جازمًا بأن لبنان ليس وطنًا نهائيًا للنزوح بل لأبنائه فقط.

وضعٌ متهالك

كثيرًا ما هوّن واقع صعوبة التقاء القادة العرب في مكانٍ واحد على سلام مهمّته. فالوضع المتهالك لمثل هذه الاجتماعات والذي تجلى خير تجلٍّ في اختصار القمة من يومين الى يومٍ واحد وفي تغيّب أكثر من ثلاثة أرباع القادة العرب وعلى رأسهم الرئيس المصري والعاهل السعودي، ساهم في تقزيم مسبقٍ لأي قرارٍ قد يصدر عن الجامعة من شأنه أن يعزز الشرخ القائم في لبنان والانقسام العمودي حول مسائل جوهريّة أبرزها ماهية التعاطي مع وضعية حزب الله لا كمقاومة في وجه العدو الإسرائيلي الذي من العرب من طبّع معه وانتهى، ولا كشريك سياسي أساسي في لبنان ومؤسساته، بل ككيانٍ محاربٍ في الجانب السوري الى جانب نظامٍ يتمنى العرب ضمنيًا وعلنًا سقوطه اليوم قبل الغد.

قمّة "مبتورة"

هي سياسة النأي بالنفس المنقذة التي غالبًا ما يجد فيها سلام خشبة خلاص متينة. لم يكن كافيًا تحفُّظ العراق الى جانب لبنان في المرة الفائتة وإبداء الجزائر ملحوظاتٍ جمة على قرار إدراج حزب الله في عداد المنظمات الإرهابية، للإشارة الى الانقسامات الحادة التي تعتري جامعة الدول العربية والتي تفجّرت أخيرًا في أكثر من شأن وكانت كفيلة بالتئام قمةٍ مبتورة وغير جدّية. من هذه العدسة ينظر جمهور حزب الله الى كلّ ما صدر وما يصدر وما سيصدر عن القمم العربية، وهذا القرار ليس طارئًا بل هو وليد اللحظة التي قرر فيها الأمين العام إبقاء كرسي سورية شاغرًا.

تصويب البوصلة

جاد سلام في شرح الواقع اللبناني المأسوي جراء أزمة النزوح وأجاد. واقعٌ كان كافيًا بجعل كلّ ما عداه من ملفات هدفها “زكزكة” حزب الله سخيفًا ومزيّفًا. كثيرًا ما طُرِح موضوع الإرهاب ربطًا بحزب الله على مسمع سلام ومرآه، وما كان عليه سوى أن يصمّ أذنيه ويغمض عينيه ليقينه بأن في لبنان شريكًا في الحكم يمثّل جمهورًا واسعًا ينتظره في الحكومة. ومع ذلك، لم يخشَ سلام مقاربة موضوع الإرهاب الذي يعصف بلبنان بين الحين والآخر. صوّب رئيس الحكومة بوصلة المفهوم المطاطي في عيون العرب الذين لم يجيدوا حتى الساعة على ما يبدو من مواقفهم الرسوّ على مفهوم أو تعريف موحّد له. عرّفهم سلام الى مفهوم لبنان للإرهاب، وهو الذي يضرب الضاحية قبل أي منطقةٍ ثم ينتقل الى القاع، ثمّ يستهدف مصرفًا مستغلًا أزمته مع حزب الله ليورّطه، ثمّ يصدّر مخططيه ومنفذيه عبر الحدود ويغذيهم بالعقائد والأسلحة في المخيمات. وكأني بالرجل أراد أن يقول إن ذاك الإرهاب الذي يضرب كلّ منطقة عربية وعلى رأسها السعودية لا يشبه حزب الله الذي وضعه العرب أنفسهم في الخانة نفسها معه وشتّان. ولم يكن ممكنًا للكلمة “السلامية” أن تكتمل من دون إدراج فصلٍ من فصول “التعاطف الجيّاش” مع “الأشقّاء العرب” المغدقين على لبنان “بنعمهم” وما عادوا كذلك، وذلك من خلال كلمات التضامن والتعاضد معهم في كلّ ما يصيبهم لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي. وهو الموقف الذي يرضي غرور كثيرين من أبناء الداخل لا سيما بعد الأزمة الناشئة غير الطارئة بين دول الخليج وحزب الله.

تذكير...

قد تكون كلمة لبنان النقطة المضيئة الوحيدة في القمّة العربية المختصرة الباهتة التي ما أجادت حتى تأكيد المؤكَّد في سلّم ثوابتِها التي لا تعني حكمًا ثوابت العرب برمّتهم. كان على سلام أن يذكّر القادة وممثليهم بمشكلة لبنان الأساسيّة. كان عليه أن يسألهم عن مفهومهم للإرهاب، لا بل كان عليه أن يهمس بجرأة وذكاء ومرونةٍ في آذانهم: يا سادة هذا هو الإرهاب الحقيقي!

التحفُّظ يُنقذ أم يُعقِّد؟ مرقص يحسم...

بعيدًا من السياسة التي تغرق في الاجتهادات لا بل في المقاربات النكائيّة إزاء أيّ تصويتٍ “مشبوهٍ” في حقّ لبنان أو شريحة من أبنائه، ماذا يقول القانون؟ وهل ينقذ “التحفّظ” لبنان من تبعات أي قرارٍ يتعلق بالتضييق عربيًا على حزب الله من خلال رميه بتهمة الإرهاب؟ يؤكد المرجع الدستوري والقانوني ورئيس منظمة “جوستيسيا” الحقوقية الدكتور بول مرقص لـ”صدى البلد” أن “في حال التحفّظ يكون القرار غير نافذ تجاه الدولة التي أبدت هذا التحفُّظ، أي أن الدولة المتحفّظة تكون ملتزمة سائر جوانب القرار ما عدا هذا الجانب موضوع التحفُّظ”. وماذا بالنسبة الى تعاطي الدول المصوِّتة على القرار مع الحكومة اللبنانية؟ يجيب مرقص: “تكون مختلفة الرأي مع لبنان وبالتالي يبقى التأزُّم السياسي قائمًا على مستوى موضوع التحفّظ، ولكن ذلك لا يعطيها أداةً قانونية لإلزامها بأي شيء”. وعن قوّة مفاعيل التحفُّظ في أبعاده القانونيّة يقول مرقص: “التحفُّظ هو عبارة عن اعتراض على جزء معيّن من القرار وقبول سائر أجزائه. بمعنى أنه عندما تكون دولة موافقة على قرار ومتحفّظة تجاه جزء منه، عوض أن تعترض تتحفّظ عن هذا الجزء بحيث تقبل بالأجزاء الأخرى وتكون معترضة على هذا الجزء”. ولكن في موضوع تصنيف حزب الله إرهابيًا هناك قرارٌ منفصل ومباشر لا يشكّل جزءًا من قرارٍ عام يمكن أن يوافق عليه لبنان باستثناء ما يتعلق بقرار مكافحة الإرهاب؟ يتلقف مرقص: “إذا كان القرار جزءًا لا يتجزأ بحيث لا يمكن التحفُّظ عن جزءٍ منه وقبول جزء آخر، حينذاك لا يمكن التحفُّظ عنه بل يقتضي الاعتراض عليه برمّته طالما أنه وحدة لا تتجّزأ أي أنه يتناول جانبًا واحدًا دون سواه".