ليست المرّة الأولى التي تقع فيها مناوشات بين حزبي "الكتائب" و"القوات"، فحتى في أيام "العزّ الآذاري"، لم يكن التحالف بينهما ثابتاً، تارةً بفعل بدعة "التمايز" الكتائبي على كلّ شيء، وطورًا بفعل سياسات "التمرّد" القواتي هنا وهناك.

ولكن أن يخرج الرئيس السابق ​أمين الجميل​ ليحمّل رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ بشكل مباشر مسؤولية "تأمين الغطاء المسيحي للفراغ الرئاسي"، فله ما له من دلالات، خصوصًا إذا ما تزامن مع "انفتاح" الكتائبيين في المقابل على خصومٍ تاريخيين، على غرار آل سكاف.

فما الذي يحصل فعلياً في حزب "الكتائب"؟ هل وقع "الطلاق النهائي" بينه وبين "القوات"، أم أنّها مجرّد حلقة أخرى من حلقات "التمايز" المكرّرة؟ ولماذا لا تكون بدايةً جديدة عشية انطلاق الموسم الانتخابي الذي بدأ يدقّ الأبواب مبكراً؟

فتّش عن الانتخابات...

هي الانتخابات، يقول قائل، بدأت تتحكّم بالسياسة اللبنانية بتفاصيل التفاصيل، ولو كانت صورتها لا تزال ملتبسة، تمامًا كما قانونها الغامض وتحالفاتها الرمادية. ولعلّ "حزب الكتائب" يكاد يكون أول الأحزاب التي "شمّرت عن زنودها" وبدأت العمل الانتخابي بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو ما لا يدلّ عليه "الطلاق غير المُعلَن" مع "القوات" فقط، بل سلسلة تراكمات في السياسات الكتائبية المُعلَنة، التي يتفق معظم المراقبين على أنّ كلمة سرّ واحدة من شأنها تفسيرها، ألا وهي "إنّها الانتخابات يا عزيزي".

فقط في هذا السياق، وُضِعت خطوة الاستقالة الناقصة من الحكومة، التي اتخذها حزب "الكتائب" والتي انقلبت عمليًا عليه مع نشوب خلافاتٍ داخلية جرّاءها خرج بنتيجتها وزير العمل سجعان قزي من صفوف الحزب، خصوصًا أنّ هذه الاستقالة أتت خارج أيّ إطارٍ زمني أو تكتيكي، إذ إنّ أيّ سببٍ مباشرٍ لها في الزمان والمكان لم يُرصَد، وقد أتت متأخّرة جدًا في حال كان العجز الحكومي وراءها، خصوصًا في مقاربة أزمة النفايات الشهيرة، التي ارتقت لمستوى الفضيحة قبل أشهرٍ طويلة من الاستقالة. وإذا كان "الكتائبيون" حاولوا من خلال الاستقالة، كما يرى المراقبون، كسب المزيد من الشعبية في الوسط المسيحي، فإنّهم سبق أن فعلوا الأمر نفسه حين رفضوا "التطبيع مع الفراغ الرئاسي" من خلال شرعنة ما سُمّي بتشريع الضرورة، وكلّها مواقف يمكن توظيفها في بازار المزايدات المسيحية المسيحية، تمهيدًا لصرفها في الاستحقاق الانتخابي لاحقاً.

ولكنّ الاستراتيجية الكتائبية لم تقف عند هذه الحدود، بل توسّعت لحدّ فتح قنوات تواصل جديدة مع العديد من المكوّنات المسيحية التي يمكن أن تكون مشاريع حلفاء عندما تدقّ ساعة الانتخابات، بدءاً من النائب ميشال المر في الانتخابات البلدية الأخيرة، وصولاً إلى "الكتلة الشعبية" التي زار النائب ​سامي الجميل​ رئيستها ميريام سكاف في دارة العائلة في سكاف، في لقاء كسر قطيعة مستمرّة بين الجانبين منذ العام 2008. وبالتالي، فإنّ هذه الاستراتيجية تقضي بمحاولة ضرب ثنائية "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​"، سواء عبر البحث عن تحالفاتٍ جديدة لمواجهتها من خلالها، أو عبر التصويب عليها سياسياً، وهو ما يفسّر رفع السقف في وجه جعجع.

تضخيمٌ غير مبرَّر؟

هكذا ينظر المتابعون إلى العلاقة المتأرجحة بين "القوات" و"الكتائب". خلفياتها انتخابية بالدرجة الأولى، ولعلّ الآتي يمكن أن يكون أعظم في المرحلة المقبلة انطلاقاً من ذلك. غير أنّ "الكتائبيين" يرون في المقابل في هذه التحليلات "تضخيمًا غير مبرّر ومبالغاتٍ لا يمكن الركون إليها".

في المنطق "الكتائبي"، فإنّ الانتقاد الذي وجّهه الرئيس السابق أمين الجميل إلى "القوات" على خلفية دعمها لعون حُمّل أكثر بكثير ممّا يحتمل. هي أصلاً ليست المرّة الأولى التي يصوّب فيها الرئيس "الفخري" للحزب أمين الجميل بالتحديد على "القواتيين"، وهو ما سبق أن فعله مراراً وتكراراً عند التوقيع على ما سُمّي بـ"إعلان المبادئ" بين "العونيين" و"القواتيين"، إعلانٌ سخر الجميل الأب من لغته الإنشائية العامة، كما من الوقت الذي استغرق الوصول إليه. إلا أنّ الأكيد، بحسب ما يؤكّد عليه "الكتائبيون"، أنّ ليس في الأمر توزيع أدوار بين الجميل ونجله رئيس الحزب حالياً سامي الجميل، كما حاول البعض الإيحاء، فانتقادات الجميل الأب سبق أن وجّه أكثر منها الجميل الابن، وهو الذي تخلّى عن ترشيح "الحكيم" لرئاسة الجمهورية حتى قبل أن يتنحّى الأخير لصالح عون أو غيره، كما أنّه سبق له أن انتقد ترشيح عون الذي لا ينسجم مع مبادئ "ثورة الارز"، وخصوصًا بعدما تبيّن أنّه لم يؤد لغاياته المرجوّة، وبات سببًا للمزيد من الشرذمة والمماطلة.

غير أنّ الأمر لم يصل لحدود إعلان "الطلاق" بأيّ شكلٍ من الأشكال، على الأقلّ من الناحية "الكتائبية"، وما يدحض هذه النظرية برأيهم هو أنّ النائب سامي الجميل لم يحذُ حذو "القوات" حين استثنوه من المفاوضات مع "الوطني الحرّ"، وهو الذي كان الحليف المفترض، إلا أنّه في المقابل لم يستثنهم من سياسة الانفتاح التي يبني عليها في الوقت الحاضر، بدليل الاجتماع الذي حصل قبل أيام بين رئيس جهاز التواصل والاعلام في "القوات اللبنانية" ملحم الرياشي والجميل، وبدعوةٍ من الأخير، وتمّ الاتفاق خلاله على التنسيق في موضوع قانون الانتخاب.

مفاجآت وأكثر...

رغم كلّ النفي والنفي المضاد، يبقى الأكيد أنّ موسم الانتخابات بدأ فعلياً في لبنان، وحزب "الكتائب"، وإن كان السبّاق في سلوك دربه سياسيًا، إلا أنّه ليس الوحيد على هذا الطريق، فـ"التيار" و"القوات"، على سبيل المثال لا الحصر، بدآ يحسبان حساب المعركة القادمة منذ أشهرٍ طويلة.

موسم الانتخابات بدأ، ومن الآن فصاعدًا، الكثير من "المفاجآت السياسية" قد تقع، مفاجآت لن يكون بمقدور أحد تفسيرها إلا على خلفية انتخابية، خلفية قد تشرّع كلّ الأسلحة والتحالفات، حتى لو ارتقت لمستوى "الانقلابات"، فالمواجهة المرتقبة مصيرية وأكثر، هذا إن حصلت!