من المعروف أنّ رفع سقف المطالب إلى الحد الأقصى هو من أبرز تكتيكات التفاوض الذي ينتهي عادة بتقديم تنازلات مُتبادلة وُصولاً إلى تسوية مقبولة من الجميع. وفي هذا السياق بالتحديد، يُدرج مُؤيّدو رئيس "تكتّل التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون الرفض القاطع له من قبل مسؤولين في "تيّار المُستقبل" وغيره. لكن حتى لو كان هذا التفسير صحيحًا، فإنّ الطريق أمام عودة "الجنرال" إلى قصر بعبدا بصفة الرئيس الثالث عشر بعد الإستقلال لرئاسة الجمهوريّة، لا تزال مليئة بالمطبّات. فالتنازلات الداخليّة المطلوبة من "التيّار الوطني الحرّ"، ومن "حزب الله" من خلفه، كبيرة من وجهة نظرهما، حتى لو إستثنينا العقبات الخارجية في الملفّ الرئاسي والتي لا تقلّ أهميّة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي بحسب كل المعلومات المنقولة عن جهات مختلفة تُحاول إحداث خرق في هذا الملفّ:

أوّلاً: إنّ "تيّار المُستقبل" غير مُوافق على تبنّي خيار العماد عون لرئاسة الجمهورية، كممثّل "قوي للطائفة المسيحيّة" من دون أن يُوازيه منح "تيّار المُستقبل" قرار إختيار الممثّل القوي للطائفة الإسلاميّة السنّية، وذلك ليس في أوّل حكومة من العهد، بل طوال فترة الرئاسة.

ثانيًا: إنّ "تيّار المُستقبل" غير مُوافق على ما يُحكى ويتردّد عن مُحاسبات مالية وإقتصادية لمراحل وحكومات سابقة كان فيها في أعلى مناصب السلطة، لأنّه يرفض أن يُوضع محلّ شبهة ومُحاكمة، ويُطالب بأن يكون شريكًا أساسيًا في الحُكم.

ثالثًا: إنّ "تيّار المُستقبل" غير مُوافق على أن تكون مُوافقته على وُصول العماد عون للرئاسة، مربوطة بسلّة من التعيينات المحسومة مُسبقًا لصالح "الجنرال" وحده، ويصرّ على أن يكون شريكًا مُقرّرًا مع باقي أركان الحُكم في تعيينات العهد الجديد، على مُختلف المُستويات الأمنيّة والسياسيّة والدبلوماسية، إلخ.

رابعًا: إنّ "تيار المُستقبل" غير مُوافق على محاولات فرض قانون إنتخابي جديد عليه، يُضرّ بمصالحه بشكل مباشر ويناسب جهات سياسيّة منافسة له، بينما المطلوب برأيه يتمثّل بتحضير الأجواء السياسيّة في البلاد لمناخ التسوية الشاملة، بدءًا بقانون إنتخابات من وحي إتفاق الطائف وليس إنقلابًا عليه، مرورًا بملف إستخراج النفط، وُصولاً إلى أصغر ملف على طاولة البحث.

من هنا، يُمكن فهم وقوع خيار "تيّار المُستقبل" على رئيس "تيّار المردة" النائب سليمان فرنجيّة الذي أظهر مرونة فائقة في عدم مُعارضة مطالب "المُستقبل" المذكورة، بالتزامن مع مُحاولته طمأنة "الحلفاء" في قوى "8 آذار" سابقًا، عبر تشديده على أنّه لم يُقدّم ضمانات مُسبقة لأحد بمواضيع لا يملك أساسًا مفتاح الربط والحلّ فيها. من جهة أخرى، يُمكن فهم عجز العماد عون عن التقدّم في إتجاه "تيّار المُستقبل"، بسبب صُعوبة المُوافقة على هذه السلّة من المطالب. وفي حال التسليم جدلاً أنّ رئيس "تكتّل التغيير والإصلاح" وافق على هذه "الشروط"، بصفتها تنازلات سياسيّة لا بُدّ منها للوصول إلى التسوية الشاملة المنشودة، فإنّ "حزب الله" الذي فوّض العماد عون البحث في الملف الرئاسي، لا يُمكنه بدوره "هضم" هذه "الشروط، ولا "هضم" ما يُنقل أيضًا من مطالب إضافية بالنسبة إلى ملف الحرب السوريّة، وإلى ملف العلاقات العربيّة-الإيرانيّة، حيث يؤكّد "تيّار المُستقبل" من اليوم أنّه سيرفض بشكل حازم أيّ علاقة لبنانية رسميّة مع الرئيس السوري بشّار الأسد، وأيّ إنحياز لبناني رسمي لغير مواقف جامعة الدول العربيّة، إلخ.

وإضافة إلى المشاكل الداخليّة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، والشروط والشروط المُضادة من قبل القوى السياسيّة اللبنانيّة، تبرز الشروط المُتضاربة للقوى الإقليميّة الفاعلة والتي تربط مسألة تسهيل ملف الإنتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة بالإنصياع لشروط ومطالب على صعيد ملفّات إقليميّة عالقة، وفي طليعتها الملف السوري، بما يتضمّنه من شروط خاصة بموقع الرئيس السوري المُستقبلي، وبالجهات المُتقاتلة على الأرض السوريّة، وباللاجئين والعلاقة معهم، إلخ. والربط لا يقتصر بالملفّ السوري، بل يتمدّد ويشمل ملفّات أخرى عدّة على الساحة الإقليميّة.

وممّا تقدّم، يُمكن للمتفائلين أن يحلموا برئاسة باتت قاب قوسين، لكنّ كل الوقائع الميدانيّة والمُعطيات الملموسة تؤكّد أنّ لا إنتخابات رئاسيّة في المُستقبل القريب. وأقصى ما يُمكن تمنّيه هو الرهان على تغيّر ما في المُعطيات الثابة القائمة حاليًا، على الرغم من أنّه لا يُوجد حتى الساعة أي بصيص أمل صغير لذلك! وسبب التعثّر المُستمرّ بسيط: التنازلات المطلوبة لوُصول "الجنرال"... تحول دون وُصوله!