مع نموّ «داعش» وأخواتها في عين الحلوة، وتهديد جواره، هل انتهت مفاعيل «الحصانة التاريخية» التي بقي يتمتع بها هذا المخيم، والتي لطالما منعت الجيش اللبناني من دخوله، على غرار ما فعل في نهر البارد العام 2007؟

أرسى اتفاق القاهرة 1969 «مشروعية» للعمل الفلسطيني المسلّح على الأرض اللبنانية: إعتراف بدور لجان المخيمات المحلية في صون أمنها، بالتنسيق مع الأمن اللبناني، واعتراف لبنان بمسؤوليته عن تسهيل دخول الفدائيين الفلسطينيين إلى لبنان وقيامهم بالعمليات ضدّ إسرائيل عبر حدوده الجنوبية («فتح لاند»).

هذا الاتفاق كان كارثياً على لبنان لأنه وفّر ظروف اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 ثمّ اجتياح إسرائيل 1982. وعلى رغم قيام لبنان بإلغاء هذا الاتفاق من جانب واحد في عهد الرئيس أمين الجميل (1987)، فإنّ مفاعيله الواقعية استمرت. وبقيت المخيمات الفلسطينية، التي كان عددها 15، جزراً أمنية تتمتع بـ«الحكم الذاتي».

ولكن، نتيجة تطوّرات مختلفة، تبدّل كثير من الوقائع على مدى عشرات السنين. فزال بعض المخيمات تماماً (تل الزعتر، جسر الباشا والنبطية) وتم تعطيل الدور العسكري للمخيمات الأخرى، باستثناء عين الحلوة التي حافظت تماماً على «استقلالها» بسكانها الـ45 ألفاً. لكنّ فصائل فلسطينية موالية لسوريا بقيت تقيم مواقع عسكرية خارج المخيمات حتى اليوم.

وأما نهر البارد فتعرَّض لعملية قيصرية نفَّذها الجيش اللبناني في 2007. وما سمح بتنفيذ العملية، بأكلافها العالية، هو أنّ المخيم كان على وشك الوقوع تماماً تحت سيطرة تنظيم متطرّف وإرهابي هو «فتح الإسلام»، له امتدادات في البيئة اللبنانية المجاورة.

ففي السنوات السابقة، حصلت مواجهات دموية بين الجيش اللبناني ومجموعات إرهابية متطرّفة («التكفير والهجرة») لها ارتباط مباشر بالمخيم، أبرزها معركة الضنية عام 2000.

وتحظى «الحصانة التاريخية» التي تتمتع بها المخيمات الفلسطينية في لبنان بغطاء عربي ودولي. لذلك، لم تكن الحكومات اللبنانية المتعاقبة قادرة على خرق «حرمة» المخيمات. وأساساً كان هناك انقسام لبناني سياسي وطائفي ومذهبي حول هذه النقطة.

وإذ بقي مخيم عين الحلوة وحده محافظاً تماماً على «استقلاله الذاتي»، اجتذب إليه كلّ السلاح الفلسطيني الذي تمّ تعطيله في مناطق أخرى. وهو بقي الوكالة الفلسطينية المعتمدة لكلّ الفصائل والجماعات الفلسطينية: الشرعية والكبرى كـ»فتح» و»حماس»، وغير الشرعية والصغرى كالتنظيمات المتطرّفة وذات الطابع الإرهابي.

وحتى اليوم، بقي الأمن اللبناني يسيطر على المخيم بـ»الريموت كونترول»، من خلال التواصل الجاري في إطار لجان التنسيق مع القوى الأمنية الفلسطينية المشتركة في داخل المخيم، وبالاستعانة ببعض الوسطاء الذين لبعضهم طابع إسلامي أيضاً («عصبة الأنصار»).

المشكلة اليوم ترتدي طابعاً جديداً. فليس مطروحاً على لبنان أن ينتزع مخيم عين الحلوة من «فتح»، بل ربما يضطر- هو و»فتح»- إلى استرداده من قبضة «داعش» ورديفاتها.

وعندئذٍ، ستكون «فتح» محشورة بين 3 خيارات صعبة:

- إذا ضربت هي «داعش» والتنظيمات المتطرّفة والرديفة فسيغرق المخيم في حرب أهلية مدمّرة.

- إذا تركت «داعش» ورديفاتها تسيطر على المخيم فستكون قد خسرته أمامها.

- إذا تعاونت مع القوى العسكرية والأمنية اللبنانية فإنها ربما ستخسر الوضعية الخصوصية التي تتمتع بها في الإشراف على آخر المخيمات الفلسطينية في لبنان.

تريد «داعش» أن تنتزع المخيم من حركة «فتح» والفصائل «الشرعية» الفلسطينية، أي تلك التي تدير السلطة في أراضي الحكم الذاتي الفلسطينية. وقد بدأت خلاياها تتوسّع في «حيّ الطوارئ» الذي لم يكن أساساً جزءاً من المخيم، في اتجاه «حي التعمير» المجاور.

هذا الواقع سيدفع الفصائل الفلسطينية إلى التحرك سريعاً للدفاع عن دورها من خلال مواجهة حتمية قريبة مع القوى المتطرّفة. وهذه المواجهة ستكون، في أيّ حال، دموية ومكلفة فلسطينياً لأنّ القوى المتطرّفة ازدادت قوة، وهي تمتدّ بارتباطاتها إلى خارج المخيم.

وكذلك، سيكون أمام الجيش اللبناني تنفيذ عملية قيصرية لتنفيذ هدفين:

1- منع القوى الفلسطينية من «تكبير» مساحة مخيم عين الحلوة من خلال قضم المناطق المجاورة كحيي «الطوارئ» و«التعمير». وهذا حقّ لا يمكن أحد إنكاره على لبنان، حتى الذين يتمسكون بمنطق اتفاق القاهرة.

2- منع «داعش» من السيطرة على المخيم. وهذا الهدف يلتقي مع أهداف «فتح» وسائر الفصائل «الشرعية». وسيحظى لبنان بالتغطية الدولية لتنفيذ العملية. فضرب الإرهاب في المطلق هو الهدف الرائج في العالم كله في هذه الأيام.

وإذا كان الأميركيون والأوروبيون يضعون كلّ ثقلهم إلى جانب الجيش لمنع سيطرة «داعش» على منطقة لبنانية (عرسال - القاع - رأس بعلبك)، فبالتأكيد، سيكونون أيضاً ضدّ سيطرة «داعش» على مخيم عين الحلوة.

ستهدّد سيطرة «داعش» ورديفاتها مدينة صيدا وجوارها. ولذلك ستحظى أيّ عملية لضربها بدعم داخلي. كذلك ستحظى بدعم دولي لأنّ سيطرة «داعش» على خط صيدا ستشكل كارثة لقوات «اليونيفيل» العاملة في الجنوب.

ومن البديهي أن يكون «حزب الله» وسائر القوى الشيعية أول الراغبين في تنفيذ العملية لأنها توفر ضماناً لبوابة الجنوب. فهذه القوى التي لم تتحمّل سيطرة الشيخ أحمد الأسير على بقعة عبرا وجوارها ستواجه بالتأكيد أيّ سيطرة للجماعات المتطرّفة على المخيم وجواره.

إذاً، تتقاطع المصالح لإجراء عملية قيصرية في عين الحلوة. وصحيحٌ أنّ الموقف التقليدي للسلطة الفلسطينية عنوانه الحفاظ على استقلالية المخيم وعدم دخول الجيش اللبناني إليه، لكنّ هذه السلطة تخوض اليوم حرباً من نوع آخر هي حرب الوجود ضد «داعش» ورديفاتها. ومن مصلحتها التعاون مع السلطة اللبنانية لإنهاء الحال المتطرّفة التي تهدّد بابتلاع المخيم وتحويله إمارة «داعشية».

لذلك، هناك اعتقاد بأنّ لحظة المواجهة في عين الحلوة تقترب بالسرعة التي تسيطر فيها «داعش» ورديفاتها على المخيم وجواره اللبناني، حيّاً تلو آخر. فهل اقترب المخيم من سيناريو نهر البارد؟

وبناءً على المعادلة العلمية القائلة إنّ تكرار الظروف إياها يؤدي دائماً إلى تكرار النتائج إياها، فإنّ هناك استحقاقاً بات داهماً في عين الحلوة، وستكون له تداعيات مهمة لأنّ المخيم هو خرطوشة «فتح» الأخيرة في لبنان، بعدما استهلكت الحروب كلّ المخيمات الأخرى.

فهل تبقى «خرطوشة» عين الحلوة لـ«فتح» أم تذوب مع «ذوبان النازحين» وقضيتهم؟