فشلت محاولة الانقلاب العسكري الأخير في تركيا ضد "حزب العدالة والتنمية"، الذي كان يعمل ليتزعّم قيادة العالم العربي والإسلامي كحركة إسلامية معتدلة متبناة من حركة "الإخوان المسلمين" في العالم، وقد جاء توقيت الانقلاب في ظروف سياسية معقّدة يمرّ بها أردوغان، الذي كان يتغنّى بـ"صفر المشكلات"، وهو يعاني الآن العديد من المشكلات السياسية على المستوى الداخلي، في تجدّد حربه ضد حزب العمال الكردستاني على الحدود، وفي الداخل التركي، وتعرُّض الأمن في تركيا للعديد من العمليات الإرهابية التي يتبناها "داعش"، التي يحتضنها النظام التركي، وفي سياسته الخارجية التي أدخلته في نفق الحرب ضد النظام السوري، والتي فتحت عليه المشكلة الكردية في الشمال السوري، عدا عن مشاكله مع الاتحاد الأوروبي، الذي يقف عائقاً دون دخول أنقرة إليه.

مشكلة تركيا الأساس هي مع أميركا، التي وقفت في وجه تركيا ومنعتها من إيجاد المنطقة العازلة لحماية حدودها، ولجعلها منطقة عسكرية للمعارضة، ولمساندتها بغطاء جوي ضد الجيش السوري وطائراته، ودعمها الأكراد في سورية، ومن خلال "قوات سورية الديمقراطية" والاعتماد عليهم في مواجهة "داعش" في الرقّة، والحسكة ومنطقة ودير الزور، والذين أصبحوا قوة عسكرية لا بد من أخذ خصوصيتهم الكردية بعين الاعتبار في أية تسوية مرتقَبة للوضع في سورية.

تعددت الآراء حول الجهات الداعمة لهذا الانقلاب:

1- قيل إنه خدعة أردوغانية، فلائحة الاعتقالات كانت جاهزة للتخلُّص من منافسيه، وعلى رأسهم فتح الله غولن، وذلك باتهامه أنه وراء هذا الانقلاب الفاشل.

2.وقيل إن الانقلاب كان مخطَّطاً له، وتقف وراءه أميركا، التي اتهمها أردوغان، لأن انطلاق بعض طائرات الانقلاب كانت من قاعدة انجرليك؛ مركز وجود طيران الحلف الأطلسي، ولأن بيان السفارة الأميركية في اسطنبول وصف الانقلاب في بدايته بالانتفاضة التركية، ودعوة وزير الخارجية الأميركي تركيا إلى عدم التمادي في فرض النظام بعد كسر الحكومة التركية حدة الانقلاب العسكري وسيطرتها على مفاصل ومؤسسات الدولة.

قد يكون الرأي الثاني هو الأقرب إلى الحقيقة، ولو بحدود غض النظر الأميركي مع العلم بالانقلاب، لكن السؤال المطروح: هل سيغيّر أردوغان من سياساته بعد الانقلاب؟

من الواضح أن المشاكل التي تعرضت لها تركيا قبل الانقلاب دفعت بأردوغان إلى إعادة النظر في علاقته مع روسيا، وتقديم الاعتذار لها، والدعوة إلى علاقات طبيعية مع سورية، حسب تصريحات رئيس الوزراء يلدريم، وإن كانت الممارسات لا توحي بشيء من التغيير؛ فقد أقدمت تركيا بعد اتفاقية الهدنة على دعم المجموعات التكفيرية كـ"النصرة" و"أحرار الشام"، ومدّتهم بالسلاح والمال والرجال من أجل استعادة ما فقده هؤلاء قبل اتفاقية الهدنة وبعد استعادة جزء من ريف حلب الجنوبي.

قد تصبح تركيا بعد فشل الانقلاب أكثر مرونة تجاه الأزمة السورية، لأن وضعها الداخلي يحتاج إلى متابعة أمنية وسياسية واقتصادية، وسيمارس أردوغان سطوة أكبر في الحكم، وسيتذرع بالانقلاب لإحكام قبضته على البلاد والزج بخصومه السياسيين والعسكريين في السجن، من دون تمييز بين متورّط بالانقلاب وغير متورط.

قد تتجاوز تركيا بعض الأسقف العالية التي طرحتها في عهد رئيس الحكومة السابق داوود أوغلو، لكنها تحتاج إلى الوقت المناسب والظرف السياسي الملائم لهذه الخطوات، وهي بذلك تكون منسجمة مع عودة العلاقة مع روسيا، بعد تقديم الاعتذار عن إسقاط الطائرة، والتي أصبحت مهتمة بها بعد توتّر علاقتها مع أميركا، وبعد الزيارات المتبادَلة مع إيران، والتي توِّجت بعقود مالية واستثمارية بالمليارات، وبعد المواقف الداعمة للنظام التركي بعد الانقلاب، من قبَل روسيا وإيران.