مرّت القمة العربية في نواكشوط كأنّها لم تكن. غاب عنها معظم الملوك والزعماء العرب، ولم تتصدّر العناوين الإخبارية الأولى، ولم يرشح عنها أيّ جديد. كثرٌ لم يعرفوا أصلاً أنّها عُقِدت، وإذا عرفوا، لم يبدوا أيّ اهتمام بقراراتها الشكلية المكرّرة، لأنّها بكلّ بساطة لم تعد تقدّم ولا تؤخّر شيئاً في المزاج العام.

وحده "التضامن مع لبنان" شكّل مفاجأة هذه القمّة، فالبند الدائم الذي درجت كلّ القمم العربية على تبنّيه منذ إنشاء الجامعة العربية تحوّل فجأة إلى مادة جدل ونقاش، فتحفّظت ​البحرين​ عليه، وأيّدتها السعودية و​الإمارات​ وقطر في ذلك، معتمدة في المقابل بدعة "النأي بالنفس" اللبنانية الصنع إزاءه، وسط تفهّم لبناني قد لا يكون مفهوماً...

السحر انقلب على الساحر؟

لم يعد الاشقاء العرب متضامنين مع لبنان، حتى في البديهيات. في البيان الختامي لقمّة نواكشوط، مرّ اسم لبنان عرضًا وبخجل ضمن مادةٍ حول مطالبة المجتمع الدولي بتنفيذ القرارات الدولية القاضية بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي والانسحاب من كامل الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان العربي السوري والأراضي المحتلة في جنوب لبنان إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.

فقط في هذه المادة، ورد اسم لبنان، لأنّ بيان القمّة بكلّ بساطة نأى عن التضامن مع لبنان، بعدما قرّرت مجموعة من الدول الخليجية أن تقلب "السحر على الساحر"، فتعتمد سياسة النأي بالنفس، ربما في إطار السياسات "الانتقامية" من لبنان، الذي اتُهِم وزير خارجيته ​جبران باسيل​ بالوقوف في وجه الإجماع العربي في أكثر من استحقاق عربي خارجي في الأشهر الماضية، رغم حرص الأخير كما غيره من المسؤولين اللبنانيين على التأكيد أنّ "حزب الله" يبقى جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني لا يمكن القفز فوقه.

وإذا كان لبنان من دولٍ قليلة شاركت في القمّة من خلال رئيس الحكومة، وهو المنصب الأرفع في لبنان في ظلّ الفراغ الرئاسي المستمرّ، فإنّ الرجل، وعلى الرغم من رسائل المودّة التي وجّهها لإخوته العرب، وبشكلٍ خاص دول مجلس التعاون الخليجي كما قال في كلمته خلال القمّة، لم يلقَ "آذاناً صاغية" في أيّ من القضايا التي يعتبرها وجوديّة، من أزمته الرئاسية إلى قضية اللاجئين، التي ركّز عليها، فلم تُترجَم على أرض الواقع اقتراحاته تشكيل هيئةٍ عربيّة تعمل على بلورة فكرةِ إنشاءِ مناطقَ إقامة للنازحين داخل الأراضي السورية، وإقناعِ المجتمع الدوليّ بها، كما إلى إنشاء صندوقٍ عربي لتعزيز قدرة المضيفين على الصمود، وتحسينِ شروطِ إقامةِ النازحين المؤقّتَة، علمًا أنّه كان حريصًا على إيصال "رسالة" لكلّ من يعنيه الأمر بتشديده على أنّ لبنان ليس بلدَ لجوءٍ دائم، وليس وطناً نهائياً إلّا لأهلِه.

لبنان يتفهّم؟!

في المقابل، بدا لبنان "متفهّمًا" للموقف العربي المتحفّظ إزاءه، من دون أن يُخضِعه للمساءلة، أو يُظهِر أيّ عتب تجاهه. هكذا، وبدل التحفظ على "التحفظ"، خرج رئيس الحكومة ​تمام سلام​ بمواقف تبريرية للموقف اللبناني الرسمي، وكأنّه يقول "العرب على حق بزعلهم منّا، ولكنّنا مُحرَجون"، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين في داخل لبنان، خصوصًا في صفوف ما كان يُعرَف بقوى الثامن من آذار.

برأي هؤلاء، فإنّ تكرار رئيس الحكومة القول أنّ لبنان لا يستطيع الموافقة على تصنيف "حزب الله" بـ"الإرهابي" لم يعد محبّذًا، خصوصًا أنّه بات أقرب إلى "التزلّف"، وكأنّ الرجل يقول للعرب "أنا معكم في كلّ ما تقولونه، ولكن لا حول ولا قوّة لي". أصلاً، يقول هؤلاء أنّ "حزب الله لا ينتظر وسامًا بالمقاومة أو الإرهاب من فاتحي خطوط التواصل مع إسرائيل والمتباهين بزيارة تل أبيب، فيما يحيي هو ذكرى انتصاره عليها في حرب تموز 2006، الانتصار الذي يصرّ على أنّه غيّر كلّ المعادلات في المنطقة".

أكثر من ذلك، يستغرب هؤلاء إصرار الرجل على تأكيد موافقة لبنان على إدانة ما سُمّيت بـ"التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية العربية"، وهو ما لا يمثّل عمليًا وجهة نظر جميع اللبنانيين، وهو على الأقلّ لا يمثّل وجهة نظر نصف شركائه في الحكومة التي يترأسها، وبالتالي لا يمكنه اختزال رأيهم، ويعتبرون أنّ مثل هذه المواقف كانت لتكون مبرّرة لو أنّ لبنان حصل على الحدّ الأدنى من الدعم والمساندة في المقابل، لا في حالة حرمانه حتى من الدعم اللفظي والإنشائي الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.

عمومًا، يشدّد هؤلاء على أن لا تداعيات لمواقف سلام ومواقف الدول العربية في الداخل اللبناني، لأنّ أحداً ليس في وارد طرحها لا على طاولة مجلس الوزراء ولا خارجه، ليس خشية تفجير الساحة في وقتٍ غير مناسب، بل لأنّ القمّة التي أتت باهتة بشهادة الجميع "لا تحرز"، ولأنّه لم يكن منتظراً منها أصلاً اكثر ممّا كان، هي التي تجاهلت قضايا عربية أساسية تفوق بأهميتها القضية اللبنانية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، المفترض أنّها القضية المركزية لكلّ العرب.

العرب تخلوا عن لبنان!

"إنّ لبنانَ لم يَعْتَدْ من إخوانه العرب، إلّا تعامُلَ الشقيق الأكبر... المتفهمِ لواقعه، الداعمِ لتماسُكِه، والحريصِ على تجربةِ العيشِ الواحدِ بين الطوائف والمذاهب فيه..."

بهذه العبارات، توجّه رئيس الحكومة تمام سلام إلى القادة العرب خلال القمّة العربية التي عُقِدت في نواكشوط، من دون أن يتمكّن في "حصد" مجرّد دعمٍ كلامي روتيني كان يعتقد أنّه بات من المسلّمات.

هنا أيضاً، يختلف اللبنانيون في التصنيف. موالو الدول الخليجية يحمّلون "حزب الله" المسؤولية، باعتباره غلّب المصالح الإيرانية على العربية، ومعارضوها يعتبرون ذلك "شهادة حسن سلوك" يقدّمها هؤلاء العرب لإسرائيل، في سياق ما يسمّونه بـ"الانفتاح غير البريء" عليها.

في كلتا الحالتين، نتيجة واحدة تبدو ثابتة: العرب تخلّوا عن لبنان... فهل من يتّعظ؟!