منذ ستّة أشهر وأكثر، انفلت الإرهاب على ​أوروبا​ وأميركا، لكنّ اللافت أنّ الإرهاب كثّف من هجماته، وتحديدًا ضدّ بلدان في أوروبا.

ومع أننا ندين ونشجب ونستنكر كل اشكال الارهاب والترهيب الذي يمارس ضد الابرياء اكان في اوروبا او البلاد العربية او بأي مكان في العالم، الا اننا لا نستطيع اغفال النوايا الحقيقية الكامنة وراء امتهان صناعة وممارسة الارهاب تحت راية الله واكبر ولا اله الا الله ضد مجتمع غربي كان واصبح اكثر قناعة بتشييع مفهوم لا جدال فيه بانه لا يمكن العيش بسلام الى جانب المسلم.

ليس من قبيل الصدفة ان تصاب مجتمعات الغرب بذعر اسمه اسلاموفوبيا خصوصاً بعد ظاهرة العداء للمسلمين التي تكاد تجتاح اوروبا.

ازهاق الارواح البريئة في اي مجتمع هو امر مرفوض ومستنكر، الا اننا نرتاب مما يحصل من ارهاب الصق ب​الاسلام​ زوراً ضد مجتمعات غربية لان نتائج البحث عن الدوافع والمسببات تشير الى نوايا اميركية صهيونية مبيتة وخبيثة ضد وجود مجتمع مسلم قرر الانخراط والاندماج في المجتمع الغربي، ومن شأن ما تم تخطيطه لمنطقتنا وللمكونات العربية احداث خلل في مجتمعاتنا، الأمر الذي يخلف ارتدات سلبية ستكون اكثر خطورة مما يحصل في اوروبا.

وفي هذا السياق، لا بد لنا من التوقف عند مضمون كتاب مهم صدر مؤخراً بعنوان "بقاء المسيحيين في الشرق خيار اسلامي".

تحت هذا العنوان انطلق الكاتب والناشر والصحافي انطوان سعد بكتابه الذي كان نتاج ابحاث تاريخية وديموغرافية ومعاينة ميدانية اضافة الى مقترحات لترجمة القرار الاسلامي بضرورة الحفاظ على العيش المشترك بين المسلمين و المسيحيين والمحافظة عليه في هذا الشرق.

نذكر ان ملحقاً اضيف الى هذا الكتاب هو عبارة عن نداء تضمن بنوداً مهمة للمحافظة على الوجود المسيحي ولمنع هجرة المسيحيين من المشرق ومن لبنان بالتحديد.

في هذا السياق نذكر ان لبنان وسوريا والاردن والعراق وفلسطين اضافة الى مصر وجميعها تشهد اضطرابات امنية تعتبر البلدان التي حافظت على التعايش المسيحي الاسلامي منذ تاسيسها، كما يجب ان لا ننسى الشخصيات المسيحية التي لعبت دورا فاعلاً واساسيا ومؤثراً في عملية الانصهار الوطني الكامل مثل فارس الخوري الذي سمي بفارس العروبة وبشارة الخوري وميشال عفلق وجورج حبش وانطون سعاده غيرهم من الشخصيات المسيحية التي اعطت درساً مهماً للأجيال بكيفية تطبيق الانصهار الوطني وتحديد الداء و العداء المتربص بامتنا العربية.

وهنا لا بدّ لنا من الاشارة الى شخصيتين عربيتين بادرتا لحماية المسيحيين في الشرق عموماً ولبنان تحديداً هما الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والرئيس السوري الراحل حافظ الاسد، فالاول اجتمع مع الرئيس المسيحي اللبناني فؤاد شهاب عام 1959 على الحدود اللبنانية السورية طالباً منه ضرورة طمأنة المسيحيين والعمل على انصهارهم في المجتمع الوطني، وفي اشارة الى ضروة الحفاظ على تنوع المجتمع اللبناني الحضاري والثقافي والديني توجه الرئيس جمال عبد الناصر للرئيس المسيحي اللبناني قائلاً "لو لم يكن لبنان موجوداً في الوطن العربي لكان وجب علينا ايجاده لان لبنان نافذة العرب الى الغرب".

اما الرئيس حافظ الاسد وفي العام 1976 فور ادراكه لوجود خطر يستهدف الوجود المسيحي في لبنان نتيجة مؤامره أميركية غربية تقضي بترحيل المسيحيين من لبنان، لم يتأخر عن التدخل العسكري لاحباط المؤامرة الاميركية الغربية بهدف حماية المسيحيين ووجودهم في لبنان خصوصاً وفي الشرق العربي عموماً.

ان من يتحدث عن مسؤولية المسلمين وخاصة النخب منهم تجاه المسيحيين يجب ان لا يغفل عن مسؤولية المسيحيين ايضاً في لعب دور بهذا الصدد.

نقول ان مسؤولية المسيحيين عموماً والنخب والمسيحية خصوصاً امر مهم في فهم المتغيرات المحيطة بنا في المنطقة والاقليم والتي تستهدف ضرب مجتمعاتنا الاسلامية والمسيحية وتحويلها الى مجتمعات متناقضة متناحرة متحاربة، وهنا يجب ان نولي الانصهار الوطني الكامل والشامل اهتماما بالغاً لانه يبقى الحصن الوحيد الذي يحمي المسيحيين في هذا المشرق، فالمسلم كما المسيحي يجب ان يشعر بانه مواطن كامل المواصفات والحقوق والواجبات الوطنية ويحق له تبوء المناصب كافة ولا يعقل ان تمنع المناصب عن فئة وتكون محصورة لصالح فئة او طائفة معينة لان مثل هذا الامر لن يكون له مردود طيب على صعيد الانصهار الوطني وهذه مسؤولية مشتركة بالدرجة الاولى.

مع اعترافنا الصريح ان بعض المرجعيات الاسلامية خصوصاً الازهر الشريف قصّر في ابراز موقف صريح وواضح من الجماعات والتنظيمات اصحاب الفكر التكفيري الذي يفتك بالمسلمين ذبحاً وقتلاً وتدميراً مشوهاً صورة الاسلام تحت راية لا اله الا الله، ونتيجة لذلك ابتلينا بقوم اعتقدوا ان الله والاسلام يخصهم وحدهم.

اننا نقر بضرورة الانصهار الاسلامي مع المجتمعات الغربية لاعطاء صورة نقية عن الاسلام ورسالته الحقيقية والعمل الدؤوب لطمأنة وحماية المسيحيين.

لقد بتنا في زمن لم يعد فيه مكان للنخب الفكرية والعلمية في التأثير على مجتمعاتنا في ظل وجود فكر ايديولوجي متطرف دينياً يستعمل ويدار من قبل اعداء المنطقة، الذين يستفيدون من تباينات في التفسير والتطبيق عمرها اكثر من الف سنه لم يكن لنا فيها اي دور.

ان الطلب من النخب المسلمة بحماية المسحيين كمن يطلب الشيء ممن يفتقده لان (فاقد الشيء لا يعطيه). ان النخب المسلمة صارت بحاجة لمن يحميها من الفكر الايديولوجي المتطرف الذي لا يعترف بفكر اخر ولا يقبل النقاش والحوار مع الاخر ويجب عدم اغفال تصنيف النخب بمجملها عند الفكر المتطرف بانها نخب مرتدة وكافرة وخارجة عن تطبيق مضمون الدين.

وهنا لا بد لنا من السؤال: هل ياتي يوم تطالب فيه النخب المسلمة الحماية من المسيحيين في الغرب؟

المسيحيون هم درة هذا الشرق ومن واجب كل مسلم في المشرق العربي وليس على النخب فقط وجوب العمل للحفاظ على الوجود المسيحي في هذا المشرق، بل يجب تجديد العمل بالعهدة العمرية التي اطلقها الخليفة عمر بن الخطاب تجاه المسيحيين، وهي الداعية للمحافظة على الوجود والحقوق المسيحية في هذا الشرق انطلاقا من القدس الشريف.

مؤخراً عقد في موسكو مؤتمر قيم وهادف الى تشخيص الداء الذي اصاب منطقتنا وضرورة ايجاد الدواء بهدف الحفاظ على هذا الارث الثقافي والحضاري من التعايش الاسلامي المسيحي و تفعيل الدور المسيحي في الشرق.

ان ما تشهده اوروبا من اعمال ارهابية يتنافى تماماً مع روح الاسلام ومع تعاليم الدين الاسلامي الحنيف ويمكن وصفه بالتدني الاخلاقي والثقافي وهو يخدم اهداف الصهاينة.

اننا نواجه اليوم هجمة غربية شرسة تطالب بطرد المسلمين من اوروبا والغرب، فهل ان قراراً غربياً استراتيجياً بطرد المسلمين من الغرب قيد التنفيذ؟

يجب مطالبة النخب الغربية بالحفاظ على الوجود الاسلامي في الغرب عموماً وان يكون خيار تلك النخب الغربية خيارا استراتيجياً من اجل الحفاظ على التوازن والتنوع الثقافي والاجتماعي في العالم...