معركة ​مدينة حلب​ ليست بجديدة، وهي كانت بدأت بنسختها الأولى في تموز 2012، بعد فترة وجيزة من إندلاع الأحداث السورية إعتبارًا من آذار 2011، حيث إكتشف النظام السوري ومُعارضيه من بداية الحرب، الأهمّية الإستراتيجيّة لكامل مُحافظة حلب. واعتبارًا من مطلع العام 2016 الحالي، تمكّن ​الجيش السوري​ والقوى "الحليفة" من إستعادة مناطق واسعة في محافظة حلب وفي الشمال السوري عمومًا، مُستفيدًا من الدعم الجوّي الروسي المُركّز. وفي الأيّام القليلة الماضية، نجح الجيش السوري في إستكمال الحصار على الأحياء الشرقية لمدينة حلب(1)، بعد كرّ وفرّ على مدى أسابيع مع مُقاتلي المُعارضة. فهل سينتهي الحصار المفروض عبر تسوية تقضي بانسحاب هؤلاء المُقاتلين أم ستقع مُواجهة كبرى هناك؟ وإذا تقدّم الخيار العسكري، متى ستنطلق هذه المعركة وكم ستدوم؟ وماذا سيحدث في حال إستعاد النظام السوري كامل حلب؟

بالنسبة إلى الجيش السوري، فهو سيُتابع بطبيعة الحال ضُغوطه العسكريّة على المناطق المُحاصرة في مدينة حلب، لجهة إستمرار العمليّات العسكرية الميدانية المحدودة، لإستكمال وتعزيز الطوق الذي فرضه، مُستفيدًا من الزخم المعنوي الكبير الذي كسبه في الأيّام القليلة الماضية. لكنّ فتح المعركة الكبرى لن يتمّ في الأيّام القليلة المُقبلة، لجملة من الأسباب:

أوًلا: الهجوم على الجزء الشرقي من حلب ليس نزهة وسيكون مُكلفًا جدًا من الناحية البشريّة، ويحتاج لقرار سياسي من أعلى المراجع.

ثانيًا: التحضيرات اللوجستية، من حشد للعديد وللعتاد بهدف شنّ هجوم واسع وشامل، تحتاج لأسابيع عدّة لتُستكمل.

ثالثًا: روسيا تضغط بكل ثقلها لمحاولة تجنّب وقوع مجازر في حلب، حيث تُحاول التوصّل إلى إتفاق برعاية الأمم المتحدة لإخلاء المدنيّين من المناطق المُحاصرة، وحتى لإنسحاب المُسلّحين إذا أمكن. وهي ليست في عجلة من أمرها لتأمين غطاء جوّي لأيّ هجوم، طالما أنّ هناك فرصة لإيجاد تسوية سلميّة.

بالنسبة إلى المُعارضة السوريّة المُسلّحة، فهي كانت إستعدّت في الأسابيع القليلة الماضية لحصار شديد وطويل الأمد، لكنّ قُدرتها على القتال لا تتجاوز بضعة أسابيع، أو شهرين كاملين في أفضل الأحوال، في حال إنطلاق هجوم واسع بدعم جوّي روسي. وهي لن تعمل على القيام بهجوم مُضاد لمحاولة فك الحصار المُحكم الحالي، ما لم تتأكّد أنّ ما حصل أخيرًا هو نتيجة تغيّر في موازين القُوى على الأرض، وليس نتيجة قرار سياسي إقليمي – دَولي يرمي إلى رفع الغطاء عن حلب تمهيدًا لفرض تسوية سياسيّة. وتدرس المُعارضة السورية إقتراح إخراج المدنيّين من الأجزاء المُحاصرة من المدينة بدقّة، في ظلّ وجود رأيين مُناقضين لديها، الأوّل موافق إنطلاقًا من الرغبة في إستفادة المُقاتلين وحدهم من مخازن المُؤن والغداء، لإطالة المعركة لفترة طويلة، والثاني رافض لفكرة خروج المدنيّين، لإستخدام هذا الأمر كورقة ضغط لحثّ المُجتمع الدَولي على التدخّل ووقف أيّ هجوم شامل. وبكل بساطة، صار وضع مُقاتلي المُعارضة داخل الأحياء الشرقيّة لمدينة حلب صعبًا جدًا، نتيجة إنقطاع الطريق مع ريف المدينة، في ظلّ وُجود ما بين 250 إلى 300 ألف مدني مُحاصر، علمًا أنّ هؤلاء يُعانون أساسًا من وضع حياتيّ وإنساني مُزر.

ويُمكن القول بحسب رأي أكثر من محلّل عسكري وسياسي مُتابع للحرب السوريّة، إنّ فرص وقوع معركة كبرى في حلب في المُستقبل القريب، مُوازية تمامًا لفرص حُصول تسوية. فالمعركة العسكريّة على أهمّيتها ليست بقدر أهمّية الأهداف المنشودة من وراء سحب ورقة مدينة حلب من يد المُعارضة السورية، ومن تركيا من خلفها. فبكل بساطة، إنّ سقوط حلب يعني:

أوّلاً: تراجع قُدرة التأثير التركي في الحرب السوريّة أكثر فأكثر، وخسارة أنقره لورقة تفاوض مُهمّة كانت بيدها، وخسارة المُعارضة لدعم لوجستي كبير ومؤثّر من خارج الحدود، وذلك بغضّ النظر إذا كان ما حصل رغمًا عن أنقره، أو بعد "رفع الغطاء" من قبلها من تحت الطاولة، في إطار لعبة المصالح وبيع "أوراق" التفاوض.

ثانيًا: مُواصلة حزب "الإتحاد الديمقراطي" توسيع رقعة سيطرته العسكريّة، تحضيرًا لإقامة منطقة حُكم ذاتي كرديّ على أكبر مساحة جغرافيّة مُمكنة.

ثالثًا: تدفق عشرات وربما مئات آلاف اللاجئين الجُدد إلى تركيا، مع ما يعنيه هذا الأمر من مشاكل إضافيّة في هذا الملف الذي تحوّل إلى قنبلة موقوتة بوجه المُجتمع الدَولي.

رابعًا: تمكّن الجيش السوري من فرض سيطرته على مُختلف المدن الكبرى، ووصلها بعضها ببعض، في مقابل سُقوط آخر المعاقل المُهمّة داخل المدن للمُعارضة السورية.

خامسًا: إعادة المُعارضة السورية إلى مُفاوضات جنيف من دون سقف عال للائحة الشروط، وهذا البند بالتحديد هو الغاية الأساسيّة من كامل ​معركة حلب​ الحالية، وكذلك من الضغوط الروسيّة على المُعارضة السورية، ومن الضغوط الأميركيّة على تركيا.

في الختام، من الضروري الإشارة إلى أنّ الخُطط الموضوعة على طاولة النظام السوري لا تقتصر على إستعادة مدينة حلب بالكامل وإخضاع المُعارضة سياسيًا، بل تشمل التوجّه نحو إدلب والعمل على إستعادتها تدريجًا، بهدف إسقاط أهم معاقل "الجيش السوري الحُرّ"، وإنهاء أيّ نواة لسلطة بديلة تتصف بالإعتدال. في المُقابل، تُخطّط القوى الداعمة للمُعارضات السورية على إختلاف أشكالها، لإطالة حرب الإستنزاف لأطول فترة مُمكنة. وبينهما تتفاوض موسكو وواشنطن والمُجتمع الدَولي، لإيجاد تسوية تحفظ مصالح أكبر قدر مُمكن من الأطراف المعنيّة بالحرب السورية، ضمانًا لنجاحها. ووسط كل هذه المشاريع، الأكيد أنّ الشعب السوري هو الذي يدفع الثمن الأغلى، وحاليًا الثمن الأعلى يتركّز في حلب...

(1)تمكّن الجيش السوري من السيطرة على مواقع مُتقدّمة داخل بلدة الليرمون، بينها منطقة الكراجات، لتُسيطر بذلك على طريق "الكاستيلو" بشكل كامل، وذلك بعد هجوم واسع شنّته من جهة مزارع الملاح الجنوبيّة.