رغم مرورِ أربعٍ وثلاثين سنةً على استشهاده، لا يزال اللبنانيون منقسمين حولَ تقييمِ بشير الجميّل. منهم من يَــكتب عنه بمحبةٍ لامتناهية، ومنهم من يكتب عنه بحقدٍ دفين، ومنهم من يكتب عنه بواقعيةِ الحدثِ التاريخي. قَــبْـل أن يَــغيب كلُّ الذين عاصروه، لن يتسنى للتاريخ أن يقولَ كلمتَــه الفاصلة في بشير. هذه حالُ كل العظماءِ عبرَ العصور، خلافاً لرجالِ السياسة الذين يَستحصِلون، وهُم أحياء، على حُــكمٍ لهم أو عليهم. إنجازاتُــهم قصيرةُ المدى لا تتعدى فترة مسؤولياتِهم.

وما عقّد الحكمَ على بشير ثلاثةُ معطيات: الأول، أن الذين اقترعوا على إرثِــه لم يكونوا دائماً على مستوى القضية، فسعَوا إلى تجهيلِه وتحميله سلبياتِ الحرب علَّهم يقطفون إيجابياتِ السلام، فأعادوا الحرب ولم يُحقّــقوا السلام بل التنازلات. الثاني، أن التسويات التي أعقَبت استشهادَه حتى اليوم تــمَّت على حسابِ القضية التي ناضل بشير في سبيلها، فوقَع لبنان تحت حكمِ وسيطرةِ من كانوا أخصامَـه وأعداءَه وحسّادَه فشوَّهوا صورتَــه وذِكراه. الثالث، أن المفاهيمَ الوطنيةَ والسياسية والاجتماعية والحضارية والثقافية التي يخضع لها الشعب اللبناني اليوم مناقضةٌ كلياً للمفاهيم التي كانت سائدةً زمنَ بشير الجميل والمقاومةِ اللبنانية. لقد تغــيَّــر الوطنُ والنظام والدولة وتبدّلت القيمُ والنظرة إلى الآخر والمحيطِ وتعدّلت موازينُ القوى العربية والاقليمية والدولية.

لقد كان بشير صاحبَ قضية، بل رسالة تنطلق من لبنانَ لتصلَ الى الشرقِ والعالم. تَمحورت تلك الرسالةُ حولَ كرامةِ الانسان، أمنِ المسيحيين وحريتِــهم، وِحدةِ اللبنانيين جميعاً، وبناءِ دولةٍ عصرية، حضارية ومُــهابة. ابتعد بشير عن الايديولوجية وتميّــز بالبراغماتية، حافظ على المبادئ وتصرّف بالوسائل. لم يكن يهابُ التهمَ بل الفشل. كان يهتم بالمواطن بقدرِ اهتمامه بالوطن، وكان دفاعه عن لبنان من أجل الشعب لا من أجل الأرض فقط. الانسانُ أولاً.

قضيةُ بشير تَــقطن عمقَ كل واحد منا، تنتقل بالروحِ والقيم والكُــرَويّـــات الدموية من الأجداد والآباء إلى الأبناءِ والأجيال الآتية. لم يخترع بشير هذه القضية ولَم يَــلِدها، هو وُلِــد فيها. فكَّ أسرَها، حرّك الدمَّ في عروقِها، فانتعشت روحُها، واستيقظت أبعادُها التاريخية وانطلقت مجيدةً علـيَّــةً عزيزةً لتستعيدَ كُرسيها الأصيل على عرشِ هذا الشرق الباحثِ عن الانبياءِ والمرسَلين الحقيقيين وقتَ كــثُــر فيه الدجّـــالون.

ما أزعجَ بشير طوالَ مسيرتِــه الوطنية، أنه اضطُّرَ للتعاطي مع أطرافٍ لم يَــخــتَر لا التحالفَ معهم ولا قتالَـهم. الظروف، بل غريزةُ البقاء، فَرضت أن يتعاملَ مع مَن لا يُحب وأن يقاتلَ من يُحب: اضطُّرَ لمواجهةِ الفلسطينيين لأنهم احتلوا بيروت والجنوبَ وأقاموا دويلةً على أرضِ لبنان. اضطُّرَ للاختلافِ مع المسلمين لأنهم وقفوا إلى جانب المنظمات الفلسطينية. اضطُّرَ لمقاومةِ السوريين لأنهم تحولوا قواتِ احتلال. اضطُّرَ لإخضاع قوى مسيحيةٍ لتوحيد البندقية. واضطُّرَ للتعاون مع إسرائيل لمنع إبادةِ المسيحيين وهزيمتهم بعدما تقاعس العربُ والغرب عن مساعدتهم، فكانت هذه العلاقةُ عاراً على الذين تخلّوا عن لبنان والمسيحيين. لكن عندما انتصر بشير وصار رئيساً حراً يَملك القدرةَ على الخِيار، اختار: قال لا لإسرائيل، ونعم للمسلم والدرزي. وافق على مبدأ الحوار مع سوريا، سافر إلى السعودية، واختار ألـــ 10452 كلم².

بشير ليس صاحبَ رهاناتٍ وخِيارات بالمفهوم المتداوَل اليوم. بشير صاحبُ فكرةٍ وطنيّة. لا سوريا خِيارُه ولا اسرائيلُ رهانُه. قدَرُه لبنان. لم يُخطِّط لاستعداءِ الفلسطينيين والسوريين، ولم يَظّن أنه سيُــضطّر يوماً قبولَ نجدةِ إسرائيل، وهو الذي رفض نجدةَ سوريا لأنه استشرف خلفيةَ مشروعِها التوسعي. مَن يقعُ في "حقلِ نظرهِ" وقضيتِـه يتحالف معه على أسسٍ واضحة تحت سقفِ الكرامة ومصلحة لبنان، ومَن يَعترض مشروعَه يقاومه بشرف. لا حلفاؤه استطاعوا أن يحوّلوه عميلاً، ولا أخصامُـــه تمكّنوا من أن يخوِّنوه. الاعجاب به جمعَ حلفاءه وأعداءه.

إن انتخابَ بشير الجميل رئيساً للجمهورية سنةَ 1982 هو انتصارٌ مسيحيٌّ وإسلامي ولبناني وعربي. هو انتصارٌ للمسيحيين لأن قائدهم صار رئيساً وقدَّم نموذجَ حكمٍ حضاريٍّ يُــبرِّر الدورَ المسيحي الخاص في لبنان. وهو انتصارٌ للمسلمين لأنه كان مصمِّماً على إعادةِ توزيع المسؤوليات، لا الحصص، للانتقال من المارونية السياسيةِ إلى اللبنانية السياسية. وهو انتصار للبنان لأن مع بشير الجميل لا وصايةَ ولا احتلال، بل شعب حر في ظل دولة قوية وجيش وطني موَحَّد يصون الديمقراطية في زمن السلام ويَحمي الشعبَ تجاه أي اعتداء. وهو انتصار للعرب لأنه كان عازماً على لعبِ دورٍ عربيٍّ انطلاقاً من صوغِ مشروع مشرقي حديثٍ يرتكز على تنميةِ الإنسان عوضَ صراعِ القوميات والانظمة. كان بشير ربيعاً حقيقياً.

بعد أربعٍ وثلاثينَ سنةً لا يزال حلمُ اللبنانيين أن يَبنوا دولةً على صورةِ ومثالِ دولةِ الــ 21 يوماً (الفترة بين انتخابه واستشهاده). غـــيّر بشيرُ الدولةَ قبلَ أن يَـتسلَّمَ السلطة، والمجتمعَ قبل أن يُشرّع، والشعبَ قبل أن يَحكمه، والإدارةَ قبل أن يُصلِحها. لم يكن يحتاج إلى أنْ يُــغـــيِّرَ أيَّ شيءٍ ليتغيرَ كلُّ شيء: لا إلى حملةِ تطهير ولا إلى لجنةِ تحقيق ولا إلى محكمة. انتُخب فتغيّر كلُّ شيء. حصلت توبةٌ جَماعية. حلّت النعمةُ على الناس. برزَ الخيرُ في الانسان. خَجِلت الطائفيةُ من المواطنية. شَــــعَّت النزاهةُ والاستقامة. توقّــف الفساد. توحَّد المجتمعُ والشعب. انكفأت الحربُ أمام السلام. غَــرُبت الخيانةُ من وجهِ الوطنية. استيقظ الاستقلالُ والسيادة. عانق حرمونُ صنين، وقانا قنوبين. التقَت الترانيمُ مع المزامير، والآياتُ مع السُوَر. تمت أعجوبة وطنية.

أظن أن الوقت حان لأن يفكر المسيحيون مع سائر اللبنانيين بشجاعةٍ بمستقبلِهم في هذا الوطن والشرق. كيانُ 1920 سقط تحت رِماح العدد، وصيغةُ 1943 سقطت تحت سيوفِ الأصوليات بعد أن نَزفت تحت بنودِ اتفاقِ الطائف. حين كان عندنا دولةٌ لم نعترف بالوطن، وحين اعترفنا بالوطن وجدنا الدولة في طور الوِداع. حين كان لدينا دستورٌ متوازنٌ يسمح للبنانيين أن يحكموا أنفسَهم من دون وصاية، استجدينا الوصاية، وحين طاب لنا طعمُ الاستقلال وجدنا دستوراً مختلاً يستدعي وجودَ وصي ما، وحين انتهينا من حروب الآخرين على أرضنا اشتركنا في حروب الآخرين على أرضهم.

لا نستطيع أن نحيا كذلك. إن المرحلةَ الحالية تُجيز للبنانيين اختيارَ نوعيةِ دولتهم. هذا زمنُ تقرير مصائر شعوبِ الشرق. كان الميثاقُ تسويةً تاريخية للخروج من الانتداب، وجاء الطائفُ تسويةً تاريخية أخرى لوقفِ العنف. لكن ينقصنا اتفاق تاريخي للمستقبل نضعه وحدَنا بعيداً عن ضغطِ البندقة وهيمنةِ الأقوى وحصصِ الطوائف وتأثيرِ الخارج تماماً كما كان سيفعل بشير لو قِيض له أن يحيا ويحكم.

آه لو بقيتَ. لكنك حيٌّ فــيَّ، على الأقل. حياً كان بشير زعيمَ جيل، شهيداً صار زعيمَ شعب، وغائباً أصبح اسطورةَ وطن.