لي قطعةُ جسدٍ مستقلّة تشبهُ قطعةَ أرضٍ في وطنٍ ما. لي على جسدي سيادةٌ مطلقةٌ كتلك التي يُقال أن للوطن الوطن لا شبه الوطن سيادةً عليها. لي في جسدي شعبٌ من الأعضاء أحكمُها كما هويت مع خشيةٍ ربّانية من أذية أحدها لأنها مُعارة لي ولن تدوم إلا لواهبها. إكتملت ثلاثيّة مكوّنات أيّ وطن وإن بدا وطني غريبًا عن بعضها ولمَ لا كلّها. اكتملت تلك الثلاثية حتى باتت مقاربةُ الجسد للوطن مُباحةً مع أولويّة الأعضاء النابضة على التراب النابض. أتساءل في قرارة نفسي وأنا شاهدٌ على انتقاصاتٍ واعتراءاتٍ في مَواطن وطني: ماذا لو كنتُ وطنًا ذا أرضٍ وشعبٍ وسيادة؟

لو كنتُ وطنًا لما استقبل ترابي سوى رمادِ الأنقياء الأوفياء، ولما سمح سوى لأرجل بواسل جيشي بأن تطأه لأن تلك الوطآت وحدها لا تكسر قدسيّته.

لو كنتُ وطنًا للفظ بحري كلَّ أكوام ​النفايات​ الراقدة سرًا في أعماقه، ولاستبدلها ببشرٍ لا تختلف رائحتُهم كثيرًا عن تلك المنبعثة من أكياس يرمونها أينما كان وكيفما كان. بالله عليكم، أوَلا يتمنى كثيرون منكم أن تبتلع أمواج البحر مَن جعل حياتكم مريرة مقرفة؟

لو كنتُ وطنًا لحدّقتُ في عيني جبران خليل جبران الشاخص في حجرٍ ولطلبتُ اليه أن يعيد نظره في اختياري وطنَه لو لم أكن أنا وطنَه.

لو كنتُ وطنًا لما سمحتُ لسمائي بأن تستقبلَ أيًا من دخان المصانع والنفايات المحروقة، ولا سحب الخروق العدوّة.

لو كنتُ وطنًا لجرّدتُ أزواج زهراء وغزل ورلى وكريستال وسارة وولاء ورقيّة ونورا وسلوى ونسرين من شرف انتمائهم اليّ لا بل من شرف انتمائهم الى البشريّة جمعاء.

لو كنتُ وطنًا لما سمحتُ لورقةٍ سخيفة يُقال فيها “جنسية” بأن تتحكّم في مصائرَ من لحمٍ ودمٍ لبنانيَّين لكن من أبوّة غير لبنانية.

لو كنتُ وطنًا لجعلتُ من جمادي أذرعًا تنهل من جيوب ناهبي خزينتي ما أخذوا وتعيده الى الشعب.

لو كنتُ وطنًا لما سمحتُ لغريبٍ بأن يستبيحَ أرضي ولما رضختُ لإراداتٍ سياسيّةٍ في تحويلي الى ترابٍ للغرباء.

لو كنتُ وطنًا لما سمحتُ لأحدٍ بأن يُنشدَني كي لا أصبح أكذوبةً على كلّ لسان وكي لا يغدو ترابي لحنًا وسمائي قطعةَ شعرٍ وبحري بحرًا من بحور العروض.

لو كنتُ وطنًا لخجلتُ من شغور موقعي الأول ولعدتُ الى الشعب وحده لأنه مصدر السلطات برمّتها.

لو كنتُ وطنًا لسمحتُ لنفسي بأن أعدّل دستوري كي لا يبقى مضغةً في أفواه المستنسبين والعابثين.

لو كنتُ وطنًا لعانقتُ شهداء جيشي وجعلتُ من ترابي مهدًا يشبه ذاك الذي فيه شبّوا، ولنسجتُ لهم من كلّ بقعةٍ قماشًا يلتحفونه في ليالي النسيان القاتمة. لكنتُ وفيًا لهؤلاء فقط، لما أزعجني هديرُ أقدامهم، لما أضنتني رشقاتُ أسلحتهم، لما خدشني شوقُهم على الجبهات الى أطفالهم.

لو كنتُ وطنًا لردعتُ كلّ رصاصةٍ طائشة عن القلوب الصغيرة والكبيرة.

لو كنتُ وطنًا لبكيتُ نفسي، وندبتُ حظي، وشتمتُ قدري، وتمنيتُ لو لم أكن من هذا العالم القاسي.

لو كنتُ وطنًا لنكرتُ نفسي واخترتُ ألا أكون وطنًا في دنيا القهر والباطل.

• الى وطنٍ لن أكونَه يومًا.