حقّقت تركيا ما طمحت وسعَت إليه منذ العام 2011، تاريخ اندلاع النزاع الدموي في سوريا. دخلت قواتها البرية الى الأراضي السورية لتدخل معها الى المعادلة الميدانية السورية مباشرة، لكنّ دخولها اليوم يحظى بغطاء وموافقة دولية ولأهداف مختلفة كلياً عمّا كانت تطمح اليه سابقاً.منذ اندلاع النزاع الدموي في سوريا، وتركيا تسعى إلى فرض منطقة حظر جوي في شمال سوريا تسمح لها لاحقاً بالسيطرة المباشرة عليها، وجعلها ساحة انطلاق للسيطرة على كل سوريا وخصوصاً على العاصمة دمشق.

لكنّ الاعتراض الدولي، وخصوصاً الاميركي، كان يحول دون ذلك. ولم يعد سراً أنّ أحد أسباب التدخل الروسي العسكري في سوريا كان وضع حدّ نهائي للحكم التركي بالتوسع في اتجاه سوريا.

لكنّ الصورة اليوم اختلفت كثيراً. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان والذي كان باشر استدارة سياسية كاملة قبل حصول الانقلاب الفاشل بأسابيع عدة واستكمل هذه الاستدارة بزخم اكبر بعد الانقلاب عارضاً دوراً جديداً لبلاده مساعداً للنظام الاقليمي الجديد الجاري تشييده، يسعى لاستثمار وتوظيف التأييد الاسلامي له في اطار التزام دور المشاركة العسكرية في القضاء على «داعش»، في مقابل مكاسب سياسية تشكل مصالح حيوية لبلاده.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الدبابات التركية اجتازت الحدود السورية لحظة وصول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنقرة في أول زيارة أميركية رسمية بعد الانقلاب الفاشل.

لكنّ الحقيقة أيضاً أنّ «الحلم» التركي اصبح اكثر تواضعاً. في السابق كان أردوغان يتصرّف على أساس أنّ مدى المصالح الحيوية لبلاده يصل الى افريقيا والحدود الباكستانية، أما اليوم فإنّ هذا الطموح اصبح اكثر تواضعاً بكثير.

فدخول الدبابات التركية الى جرابلس السورية تحت غطاء طائرات التحالف الدولي، يعني أنّ «التفويض» الممنوح لأنقرة ليس مفتوحاً. وقيل إنّ العملية في جرابلس ستستغرق اسبوعين.

في السابق كان التدخل التركي يهدف الى إطاحة الرئيس السوري بشار الاسد، أما اليوم فهو لضرب «داعش»، وبعد التزام تركي علني ببقاء الأسد ولو موقتاً.

لكنّ هذا التطوّر كان قد سبقه تفاهم عريض أرسته القمة التركية - الروسية والتي استتبعت بتنسيق كامل مع ​إيران​.

وكان لافتاً أنّ العملية التركية التي يدعمها التحالف الدولي تتزامن مع العمليات العسكرية التي يشنّها الجيش التركي ضد الأكراد في الاراضي التركية، والضغط الحاصل على أكراد سوريا. وكذلك بالتزامن مع اطلاق يد الأمن والاستخبارات التركية ضد المحسوبين والمؤيّدين لـ»داعش» في الداخل التركي.

ومن هذه الاشارة الميدانية المهمة، يمكن الاستنتاج أنّ نهاية الفصل الاخير لدولة «داعش» قد بدأت.

فالترتيبات التي طال انتظارها وكان يجري صوغها في الكواليس والتي تولّت موسكو خصوصاً دوراً محورياً وأساسياً في إنجازها باتت شبه مكتملة، وهو ما عبّرت عنه واشنطن ولو بطريقة غير مباشرة.

في هذه المرحلة تبدو العاصمة الأميركية قد سلمت بدور روسي كبير، وهذا الدور عبّرت عنه موسكو عسكرياً وسياسياً. فالصواريخ التي أطلقتها روسيا في السابق من بحر قزوين وعبرت السماء الإيرانية، وفي الأمس من البحر الابيض المتوسط، كانت أشبه بعرض القوة العسكرية الروسية وقدرة التحرك المتقدمة لديها. أضف الى ذلك الخطوة الاهم وهي الانطلاق من قاعدة «همدان» الإيرانية، إذ إنّ خطوة كهذه لم يتمّ الاتفاق عليها فجأة كما أنها لا تنتهي قريباً.

صحيح أنّ معارضة إيرانية داخلية ظهرت وكانت متوقعة، وصحيح أيضاً أنّ الطائرات الروسية عادت الى أراضيها، لكنّ الأكثر صحّة أنّ تفاهماً كبيراً بين روسيا وإيران حصل وله امتدادات كبيرة مستقبلاً تطاول مصالح البلدين السياسية والامنية والاقتصادية. وأنّ تركيا التي دخلت أخيراً على الخط ستحظى بدور ما.

وحتى إشعار آخر، تبدو واشنطن موافقة على الالتزام الروسي جوانب اساسية في الشرق الأوسط. وخلال الاشهر الماضية وعلى رغم حمأة الحملات الانتخابية والصخب الكبير الذي يحوط بها، حصل اتفاق بين فريقي عمل الرئيس الأميركي باراك أوباما والمرشحة هيلاري كلينتون التي باتت على مرمى حجر من دخولها البيت الابيض.

وقضى هذا الاتفاق بأن يضغط فريق كلينتون لإنجاز البنية التحتية الصلبة لاتفاق التسوية في سوريا والبدء بتركيزه، وبالتالي تفجير كلّ الالغام أمامه لتكون إدارة كلينتون «وريثة» اتفاق «ملزمة» السير به.

فالمعركة الانتخابية الدائرة في الولايات المتحدة الأميركية ستلزم كلينتون بانتهاج سياسة اكثر تشدداً، ولو في الشكل، وهو ما يجعل مهمتها بتطبيق اتفاق التزمته بلادها أسهل وأفضل بكثير من صوغه عبر فريق عملها المضطر الى اعتماد خطاب متشدّد.

دخول الدبابات التركية تحت الغطاء الجوي الدولي مؤشّر ميداني إضافي الى أنّ مرحلة بداية النهاية بدأت، وأنّ إرساء كلّ الاتفاق بات قاب قوسين أو أدنى.

وفي لبنان، هناك مَن يشبّه تداعيات التطورات في سوريا والدخول العسكري التركي بالاحتلال العراقي للكويت عام 1990. وعلى رغم تصاعد حماوة المواجهة الداخلية تبدو العواصم الغربية وفي طليعتها واشنطن كمَن يطلب بعض الوقت، ربما في انتظار إرساء التسوية في سوريا ليصبح الدخول الى حلّ الأزمة اللبنانية اكثر سهولة. لذلك جهدت السفيرة الأميركية إليزابيت ريتشارد خلال جولاتها المتعددة على الشخصيات والأحزاب في تأكيد موقف بلادها الحفاظ على الاستقرارين الأمني والسياسي أيّاً يكن الوضع.

وفيما أكدت للذين التقتهم التزام بلادها الكامل بالجيش كعامل استقرار ومنحه كلّ ما يطلبه من امكانات للحفاظ على الاستقرار عند الحدود وفي الداخل، فإنها في المقابل جدّدت الالتزام بعدم المسّ بالاستقرار السياسي، وبالتالي بحماية الحكومة وعملها. ما يعني أنّ الشغب السياسي محكوم بسقف تفاهمات كبرى لا يمكن خرقه. وكلّ ما يمكن فعله هو تقطيع الوقت وانتظار التطوّرات السورية وربما وصول إدارة أميركية جديدة لترجمة التفاهمات الجاري وضعها.