بعد أسبوع من مغادرة السفير السعودي لدى لبنان علي عواض عسيري إلى بلاده في مطلع آب الجاري، وقيل إنها إجازة لثلاثة أشهر قد يعود بعدها لإجراء مهام إدارية تمهّد ربما لتسليم سفير جديد، وقيل أيضاً إنها تخفيض سعودي متعمَّد للتمثيل الدبلوماسي إلى مستوى قائم بالأعمال، حضر إلى بيروت وزير الخارجية المصري سامح شكري لبلورة المواقف اللبنانية من الاستحقاق الرئاسي، وقد أبدى سفير مصر في لبنان محمد بدر الدين زايد رأيه بهذه الزيارة قائلاً إنها لا تتعدى استكشاف ما استجدّ من مواقف لدى الأطراف اللبنانيين من هذا الاستحقاق.

لعل الدور الذي كان يمارسه السفير العسيري في لبنان، جعله لفترة ما "سفيراً فوق العادة"، ليس فقط قياساً بحركته السياسية المبالَغ فيها، ومشاركته في كافة مناسبات "الأفراح والليالي الملاح"، بل لأنه يُعتبر من بين قلة من السفراء العرب في تاريخ الدبلوماسية المعتمَدة في لبنان، الشخصية التي أثارت التساؤلات وعلامات الاستفهام، وسط اتهامات في السر والعلن لحقيقة الدور الذي يلعبه من مقرّ سفارته في قريطم، أو منزله في اليرزة، ورغم تأكيداته أن انتخاب رئيس للجمهورية استحقاق داخلي لا تتدخل فيه المملكة، فهو الذي تدخّل وأدخل أنفه في كل شاردة وواردة، وحاول من خلال الدعوة لمأدبة رمضانية أن يكون "العرّاب" للجميع، وخيّبه الجميع، خصوصاً أنه متهَم بلعب دور استخباراتي من الدرجة الأولى، وهو صاحب نظرية عزل حزب الله وتشجيع فرض العقوبات الدولية والعربية عليه، وهو الذي لطالما أبدى عدوانية تجاه المقاومة، في وطن المقاومة.

وبقدوم وزير خارجية مصر سامح شكري إلى بيروت، بعد مغادرة السفير العسيري، بدا شكري "سفيراً سعودياً" من درجة ممتاز، في محاولة مصرية ليس لاستعادة دور مصر على المستوى القومي والعربي، لأن هذا الدور ممنوع على مصر حالياً، وسط واقع عربي متداعٍ، بل جاءت الزيارة ضمن جدول أعمال سعودي بدبلوماسية مصرية لا أكثر ولا أقل، لأسباب ترتبط بالعلاقات السعودية المصرية أولاً، والمتغيّرات التي طرأت على لبنان ثانياً، والتي لا تشبه الظروف التي وُلد فيها اتفاق الطائف، على حد تعبير السفير المصري في بيروت.

أولاً، في العلاقات السعودية المصرية، التي تشبه سياسياً "ميزان التبادل التجاري" المائل لصالح السعودية، فإن مصر الخارجة من ثورات وتغييرات قيادية ومشاكل اقتصادية خانقة، باتت حاجتها للمساعدات الخارجية والقروض ملحة، والعلاقة المتينة التي نسجها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع الملك السعودي الراحل عبد الله، وبعده مع الملك سلمان، علاقة تبعية سياسية مطلقة بالنظر إلى حاجة مصر إلى الأموال الطائلة لسد حاجات 100 مليون مواطن، سواء جاءت هذه الأموال على شكل قروض، أو مساعدات، أو ودائع في المصرف المركزي، التي لم تستطع حتى الآن وقف تدهور العملة المصرية، حيث لامس الجنيه المصري مؤخراً عتبة الثلاثة عشر جنيهاً للدولار الأميركي الواحد، واشتعلت السوق السوداء.

وبعكس المساعدات الإماراتية لمصر، والتي جاءت على خلفية مكافأة النظام المصري على هزيمته لـ"الإخوان المسلمين"، فقد جاءت "المكارم السعودية" وكأنها مشروطة بالوصاية السياسية على مصر، بدليل ألا دور لمصر في اليمن والعراق، مع أداء خجول في السعي لحل سياسي في سورية، بعد أن هُزمت المملكة في سورية كما في اليمن والعراق.

ثانياً، في المتغيرات اللبنانية؛ ما ارتكبه وزير الخارجية المصري، بعدم لقائه ممثلين عن حزب الله، بإيحاء سعودي حتمي، جرّد زيارته من مضامينها، وكأنها لم تكن، ولن تترتب عليها أية خطوة إيجابية قد تكون مقبولة لبنانياً، ومصر التي صرّح سفيرها في بيروت على هامش زيارة وزير خارجيتها أنها مقرَّبة من كافة الأطراف، حريّ بها على أرضها وقف التنكيل والتهجير بحق الأقباط المسيحيين، وعدم محاربة الشيعة، على ندرتهم، ووقف التطرّف الأصولي "السلَفي"، في زمن انكفاء الأزهر الشريف عن أداء دوره في مواجهة أعتى موجة تكفير لشيوخ ودعاة دمروا أمة بفتاوى غريبة، هذا الأزهر الذي أدار شؤون المسلمين على مدى ألف عام، وجاءت البدع الوهابية السعودية لتقضي عليه وعلى دور القاهرة عاصمة الألف مئذنة.

وإذا كان وزير الخارجية المصري قد زار بعض القيادات المسيحية المعنية بالاستحقاق الرئاسي، فهو لا يمتلك "عصا موسى" لتسريع استحقاق ممنوع حالياً إنجازه إقليمياً وداخلياً، بانتظارجلاء الوضع السوري، أما زيارته لـ"بيت الوسط" بغياب صاحبه، فهو قد دخل "وكالة بلا أبواب"، حيث الهرج والمرج داخل "تيار المستقبل"، الذي يعاني من تفكك يهدد البيت بالانهيار، والجميع ينتظر تشرين الأول المقبل لعقد مؤتمر عام يقضي على ما تبقّى من القوة السُّنية التي يدّعيها آل الحريري.

الكل يلعب في الوقت الضائع بانتظار تطورات حلب وريف دمشق، والدور القومي التاريخي لمصر كان يلزمها بأن تكون زيارة وزير خارجيتها للبنان، متوَّجة بلقاء ممثلين عن مقاومة تختصر قومية العرب وشرف عروبتهم، وإذا كان الوزير شكري لا يقرأ التحوّلات الراهنة، خصوصاً على مستوى التحالف الروسي - الإيراني - السوري، الموجّه أصلاً لأميركا وأدواتها، وفي طليعتها السعودية، وأن المقاومة في لبنان هي أهم من كل من التقاهم، فإننا نشكر للوزير شكري زيارته، وليعتبرها رحلة استجمام.