لم يتردد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في الالتفاف 180 درجة سياسياً عندما دعت الحاجة الى ذلك، فارتمى في احضان ​روسيا​ التي كان على شفير التهديد بحرب معها، ثم وطّد علاقته بإيران ولم يقطعها بالولايات المتّحدة وعزّزها مع اسرائيل.

كل هذه التحولات السياسيّة أتت في وقت دقيق وحسّاس، وهي أفادت بالطبع أنقرة لاستعادة دور حيوي (إضافة الى الانتعاش الإقتصادي بعد عودة العلاقات مع روسيا الى سابق عهدها) في المنطقة، وسارعت واشنطن الى استرضائها مجدداً. طوال السنوات الماضية لم تعمد تركيا الى الدخول للاراضي السورية بهذا الشكل الفاضح والصريح كما تفعل اليوم، وهي أمّنت الغطاء الروسي-الاميركي لخطوتها هذه التي كانت ثمرتها تحرير جرابلس من "داعش" في وقت قياسي.

أطراف كثيرة استفادت، وتستفيد، من التدخل التركي العسكري في سوريا، ومنها بطبيعة الحال النظام السوري. اليوم، يتفق الرئيس السوري بشار الاسد والرئيس التركي على ان إقامة دولة كردية بين البلدين هو أمر في غاية الخطورة عليهما معاً، وهو كان يمكن ان يتحقق تحت ستار محاربة الارهاب، لذلك كان لا بدّ من تحرك و"تنسيق" بين الجانبين للتخلص من هذا الخطر.

واذا ما صح الكلام عن لقاء عقد بين مسؤولين من الاستخبارات التركيّة والاستخبارات السوريّة، فإنّ التساؤل عن إمكان تعامل اردوغان مع الاسد يصبح مشروعاً. في العلن، يصرّ الاثنان على أنّ الجرّة بينهما مكسورة تماماً ولا يمكن إصلاحها، اما عملياً فلا يمكن التصديق بأنّ مثل هذه الامور تحصل في السياسة. فإذا عادت العلاقة بين تركيا وروسيا الى سابق عهدها بعد التوتر الكبير الذي سادها، واذا كرّر الأسد اكثر من مرّة انه مستعد للعفو عن المقاتلين الذين يعارضونه شرط القاء سلاحهم، فما الذي يمنع من تقارب بين الرئيسين بمباركة دوليّة؟

لا تزال المسألة بعيدة عن الواقع لأسباب كثيرة، ولكن الاهمّ أنّه في مقابل "تقبّل" أردوغان للتعامل مرحلياً مع الاسد، إلاّ أنّه لا يمكنه "تشريع" هذا التعامل في ظلّ استمرار الغرب والدول الاقليميّة في معارضة الأسد والمطالبة برحيله، ولكن من المؤكد أنّه في حال تمّ إيجاد أجواء مغايرة لهذا الموقف الاقليمي-الغربي، فإنّ تركيا ستكون أول من يفتح العلاقات مع سوريا في ظل وجود الأسد على رأسها.

واذا ما نجحت الخطط الموضوعة، فإنّ تقسيم سوريا نظرياً سيكون الثمن لإعادة الأسد الى الخريطة الدولية ورفع "الحظر" المفروض عليه. والقول بالتقسيم النظري هو لأنّ ما يحصل اليوم في جرابلس وغيرها يمهّد لذلك، فتركيا لن تبقي قواتها العسكرية في تلك المدن، وسيتسلّمها الجيش السوري الحر وبالتالي ستبقى في أيد سوريّة انما موالية لتركيا وللولايات المتحدة، فيما ستبقى مدن أخرى في يد الجيش السوري المدعوم من روسيا وايران. هذا الأمر هو تقسيم نظري، لأنّه في الواقع ستكون جميع المدن في أيدٍ سورية، إنّما الخلافات السياسيّة وانقسام الدعم الخارجي سيكون اشبه بتقسيم عمليّ للسيطرة والنفوذ السياسيّ وحتى العسكريّ.

في مطلق الاحوال، يبدو وكأن الاكراد باتوا النقطة المشتركة وعامل التقارب القوي بين أردوغان والأسد، فيما تبتعد أميركا عنهم بعد أن كانوا "طفلها المدلل" وكانوا أقرب من أي وقت مضى من تحقيق حلم دولتهم.

يقول البعض أنّ ثمن اعتراف العالم مجدداً ببشار الاسد هو تقسيم سوريا، ليحكم عندها بصورة منقوصة، ويغادر بعد سنوات الحياة السياسيّة في بلاده، فهل تكون الخطوات التركيّة التي نشهدها اليوم هي "البروفة" لمثل هذا السيناريو الذي يتردّد ويُعتبر منطقياً نسبة الى التطورات التي تحصل، أم أنّ في قبّعة الساحر الروسي سيناريوهات أخرى تفضي الى مواقف أقل ثمناً بالنسبة الى السوريين مقابل نفوذ اكبر للدب الروسي في الشرق الأوسط؟